الْكَعْبَةِ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ تَحَيَّرَ فِي دِينِهِ وَسَيَعُودُ إِلَى مِلَّتِنَا كَمَا عَادَ إِلَى قِبْلَتِنَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ، وَعَلَى هَذَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ صَحِيحًا، وَقَوْلُهُ: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة: ١٥٠] يَعْنِي: لَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ عَلَيْكُمْ إلا مشركو قُرَيْشٍ فَإِنَّهُمْ يُحَاجُّونَكُمْ فَيُجَادِلُونَكُمْ وَيُخَاصِمُونَكُمْ بالباطل والظلم وَمَوْضِعُ (الّذِينَ) خَفْضٌ كَأَنَّهُ قَالَ: سوى الذين ظلموا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: نُصِبَ بِالِاسْتِثْنَاءِ.
قَوْلُهُ تعالى: {مِنْهُمْ} [البقرة: ١٥٠] يَعْنِي: مِنَ النَّاسِ، وَقِيلَ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، مَعْنَاهُ وَلَكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا يُجَادِلُونَكُمْ بالباطل قَالَ أَبُو رَوْقٍ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ، يَعْنِي: الْيَهُودَ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّ الْكَعْبَةَ لإبراهيم، وَوَجَدُوا فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مُحَمَّدًا سَيُحَوَّلُ إِلَيْهَا، فَحَوَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إليها لئلا يكون لهم حجة فيقولوا: إِنَّ النَّبِيَّ الَّذِي نَجِدُهُ فِي كِتَابِنَا سَيُحَوَّلُ إِلَيْهَا وَلَمْ تُحَوَّلْ أَنْتَ، فَلَمَّا حُوِّلَ إِلَيْهَا ذَهَبَتْ حُجَّتُهُمْ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا, يَعْنِي: إِلَّا أَنْ يَظْلِمُوا فَيَكْتُمُوا مَا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَوْلُهُ {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة: ١٥٠] لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ، وَلَكِنْ (إِلَّا) فِي مَوْضِعِ وَاوِ الْعَطْفِ، يَعْنِي: وَالَّذِينَ ظَلَمُوا أَيْضًا لَا يَكُونُ لَهُمْ حجة، فَمَعْنَى الْآيَةِ: فَتُوَجَّهُوا إِلَى الْكَعْبَةِ لئلا يكون للناس - يعني لليهود - عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ فَيَقُولُوا: لِمَ تَرَكْتُمُ الْكَعْبَةَ وَهِيَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنْتُمْ عَلَى دِينِهِ وَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ فَيَقُولُونَ لِمَ تَرَكَ مُحَمَّدٌ قِبْلَةَ جَدِّهِ وَتَحَوَّلَ عَنْهَا إِلَى قِبْلَةِ الْيَهُودِ؟ {فَلَا تَخْشَوْهُمْ} [البقرة: ١٥٠] فِي انْصِرَافِكُمْ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَفِي تَظَاهُرِهِمْ عَلَيْكُمْ بِالْمُجَادَلَةِ، فَإِنِّي وَلِيُّكُمْ أُظْهِرُكُمْ عَلَيْهِمْ بِالْحُجَّةِ وَالنُّصْرَةِ، {وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: ١٥٠] عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة: ١٥٠] وَلِكَيْ أُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بِهِدَايَتِي إِيَّاكُمْ إِلَى قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ، فَتَتِمُّ به لكم الملة الحنيفية {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: ١٥٠] لكي تهتدوا من الضلالة، و (لعلّ وعسى) من الله واجب.
[قَوْلُهُ تَعَالَى كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ] آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ. . . .
[١٥١] قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} [البقرة: ١٥١] هذه الكاف للتشبيه، ويحتاج إِلَى شَيْءٍ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، فَقَالَ بعضهم: يرجع إِلَى مَا قَبِلَهَا، مَعْنَاهُ: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِيَ عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رسولا منكم، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَالْكَلْبِيُّ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا بَعْدَهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: ١٥٢] مَعْنَاهُ: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ فَاذْكُرُونِي، وَهَذِهِ الْآيَةُ خِطَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَالْعَرَبِ، يَعْنِي: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ {رَسُولًا مِنْكُمْ} [البقرة: ١٥١] يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} [البقرة: ١٥١] يَعْنِي: الْقُرْآنَ، {وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: ١٥١] قِيلَ: الْحِكْمَةُ السُّنَّةُ، وَقِيلَ: مَوَاعِظُ الْقُرْآنِ، {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: ١٥١] من الْأَحْكَامَ وَشَرَائِعَ الْإِسْلَامِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute