أَقَامُوا هُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِمَكَّةَ وَقَالُوا نُقِيمُ عَلَى الْكُفْرِ مَا بَدَا لَنَا فَمَتَى أَرَدْنَا الرَّجْعَةَ نزل فِينَا مَا نَزَلَ فِي الْحَارِثِ، فَلَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فَمَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَنَزَلَ فِيمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ كَافِرًا {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [آل عمران: ٩١] الْآيَةَ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وَعَدَ اللَّهُ قَبُولَ تَوْبَةِ مَنْ تَابَ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} [آل عمران: ٩٠] قِيلَ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ إِذَا رَجَعُوا فِي حَالِ الْمُعَايَنَةِ، كَمَا قَالَ: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: ١٨] وَقِيلَ: هَذَا فِي أَصْحَابِ الْحَارِثِ بن سويد حيث أعرضوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَقَالُوا نَتَرَبَّصُ بِمُحَمَّدٍ ريب المنون، فَإِنْ سَاعَدَهُ الزَّمَانُ نَرْجِعُ إِلَى دينه، (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) ، لن يقبل ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مُتَرَبِّصُونَ غَيْرُ مُحَقِّقِينَ، {وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} [آلِ عُمْرَانَ: ٩٠]
[٩١] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ} [آل عمران: ٩١] أَيْ: قَدْرُ مَا يَمْلَأُ الْأَرْضَ مِنْ شَرْقِهَا إِلَى غَرْبِهَا، {ذَهَبًا} [آل عمران: ٩١] نُصِبَ عَلَى التَّفْسِيرِ، كَقَوْلِهِمْ: عِشْرُونَ درهما. {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران: ٩١] قِيلَ: مَعْنَاهُ لَوِ افْتَدَى بِهِ، وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ مُقْحَمَةٌ، {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: ٩١]
[٩٢] قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} [آل عمران: ٩٢] يَعْنِي: الْجَنَّةَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: التَّقْوَى، وَقِيلَ: الطَّاعَةَ، وقيل: الخير، وقال الحسن: لن تكونوا أبرارا، {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: ٩٢] أَيْ: مِنْ أَحَبِّ أَمْوَالِكُمْ إِلَيْكُمْ، رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْهَا آيَةُ الزَّكَاةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ إِنْفَاقٍ يَبْتَغِي بِهِ الْمُسْلِمُ وَجْهَ اللَّهِ حَتَّى الثَّمَرَةَ يَنَالُ بِهِ هَذَا الْبِرَّ، وَقَالَ عَطَاءٌ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ أَيْ: شَرَفَ الدِّينِ وَالتَّقْوَى حَتَّى تَتَصَدَّقُوا وَأَنْتُمْ أصحاء أشحاء. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: ٩٢] أي: يعلمه ويجازي به.
[قَوْلُهُ تَعَالَى كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا] مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ. . . .
[٩٣] قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عمران: ٩٣] سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: «أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: إنك تَزْعُمُ أَنَّكَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ لَا يَأْكُلُ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا وَأَنْتَ تَأْكُلُهَا، فَلَسْتَ عَلَى مِلَّتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَانَ ذَلِكَ حَلَالًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ "، فَقَالُوا: كُلُّ مَا نُحَرِّمُهُ الْيَوْمَ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا عَلَى نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْنَا» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، يَعْنِي: لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوا مِنْ حُرْمَةِ لُحُومِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، بَلْ كَانَ الْكُلُّ حَلَالًا لَهُ وَلِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِنَّمَا حَرَّمَهَا إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ قَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ، يَعْنِي: لَيْسَتْ فِي التوراة حرمتها، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ وَلَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَإِنَّمَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمُ اتِّبَاعًا لِأَبِيهِمْ، ثُمَّ أَضَافُوا تَحْرِيمَهُ إِلَى اللَّهِ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: {قُلْ} [آل عمران: ٩٣] يَا مُحَمَّدُ {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [آل عمران: ٩٣] حتى يتبين لكم أنه كما قلت، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: ٩٣] فَلَمْ يَأْتُوا، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
[٩٤] {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [آل عمران: ٩٤]
[٩٥] {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: ٩٥] وَإِنَّمَا دَعَاهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ فِي اتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ اتِّبَاعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[٩٦] قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: ٩٦] سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ قِبْلَتُنَا وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْكَعْبَةِ وَأَقْدَمُ وَهُوَ مُهَاجَرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ المسلمون الْكَعْبَةُ أَفْضَلُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute