للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدنيا {قَالَ} [الأعراف: ١٤٣] الله تعالى {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: ١٤٣] وَلَيْسَ لِبَشَرٍ أَنْ يُطِيقَ النَّظَرَ إِلَيَّ فِي الدُّنْيَا مَنْ نَظَرَ إِلَيَّ فِي الدُّنْيَا مَاتَ فَقَالَ: إِلَهِي سَمِعْتُ كَلَامَكَ، فَاشْتَقْتُ إِلَى النَّظَرِ إِلَيْكَ، وَلَأَنْ أَنْظُرَ إِلَيْكَ، ثُمَّ أَمُوتُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعِيشَ، وَلَا أَرَاكَ فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} [الأعراف: ١٤٣] وهو أعظم جبل، وَتَعَلَّقَتْ نُفَاةُ الرُّؤْيَةِ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} [الأعراف: ١٤٣] وَلَنْ تَكُونُ لِلتَّأْبِيدِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا، وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَنْ تَرَانِي فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْحَالِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُ الرُّؤْيَةَ في الحال، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَنْسِبْهُ إِلَى الْجَهْلِ بِسُؤَالِ الرُّؤْيَةِ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنِّي لَا أَرَى حَتَّى يكون لَهُمْ حُجَّةٌ، بَلْ عَلَّقَ الرُّؤْيَةَ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْجَبَلِ، وَاسْتِقْرَارُ الْجَبَلِ عند التَّجَلِّي غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ إِذَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ تِلْكَ الْقُوَّةَ، وَالْمُعَلَّقَ بِمَا لَا يَسْتَحِيلُ لَا يَكُونُ مُحَالًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: ١٤٣] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ظَهَرَ نُورُ رَبِّهِ لِلْجَبَلِ جَبَلِ زُبَيْرٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَظْهَرَ اللَّهُ مِنْ نُورِ الْحُجُبِ مِثْلَ مَنْخَرِ ثَوْرٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ: مَا تَجَلَّى مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ لِلْجَبَلِ إِلَّا مَثَّلُ سَمِّ الْخِيَاطِ حَتَّى صَارَ دَكًّا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَا تَجَلَّى إِلَّا قَدَرَ الْخِنْصَرِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ هَكَذَا، وَوَضَعَ الْإِبْهَامَ عَلَى الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى مِنَ الْخِنْصَرِ، فَسَاخَ الْجَبَلُ» (١) .

وحُكِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ الله تعالى أظهر سَبْعِينَ أَلْفِ حِجَابٍ نُورًا قَدَرَ الدِّرْهَمِ، فَجَعَلَ الْجَبَلَ دَكًّا، أَيْ: مُسْتَوِيًا بِالْأَرْضِ. قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (دكاء) ممدودا غير منون ها هنا وَفِي، سُورَةِ الْكَهْفِ، وَافَقَ عَاصِمٌ فِي الْكَهْفِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (دَكَّا) مقصورا منونا فمن قصر فَمَعْنَاهُ جَعَلَهُ مَدْقُوقًا: وَالدَّكُّ وَالدَّقُّ وَاحِدٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ دَكَّهُ اللَّهُ دَكَّا أَيْ: فَتَّتَهُ كَمَا قَالَ: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} [الْفَجْرُ: ٢١] وَمَنْ قَرَأَ بِالْمَدِّ أَيْ: جَعَلَهُ مُسْتَوِيًا أَرْضًا دَكَّاءَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ جَعَلَهُ مِثْلَ دَكَّاءَ، وَهِيَ النَّاقَةُ الَّتِي لَا سَنَامَ لَهَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلَهُ تُرَابًا. وَقَالَ سُفْيَانُ: سَاخَ الْجَبَلُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى وَقَعَ فِي الْبَحْرِ فَهُوَ يَذْهَبُ فِيهِ. وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: صَارَ رَمْلًا هَائِلًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: جَعَلَهُ دَكًّا أَيْ: كسرا جبالا صغارا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: ١٤٣] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحُسْنُ: مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَيِّتًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: خَرَّ مُوسَى صَعِقًا يَوْمَ الْخَمِيسَ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَأُعْطِي التَّوْرَاةَ يوم الجمعة يوم النحر {فَلَمَّا أَفَاقَ} [الأعراف: ١٤٣] مُوسَى مِنْ صَعْقَتِهِ، وَثَابَ إِلَيْهِ عَقْلُهُ عَرَفَ أَنَّهُ قَدْ سَأَلَ أَمْرًا لَا يَنْبَغِي لَهُ، {قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف: ١٤٣] عَنْ سُؤَالِ الرُّؤْيَةِ {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: ١٤٣] بِأَنَّكَ لَا تُرَى فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِكَ مِنْ بَنِي إسرائيل.

[قوله تعالى قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ] بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي. . . .

[١٤٤] {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف: ١٤٤] اخْتَرْتُكَ عَلَى النَّاسِ، قَرَأَ ابْنُ كثير وأبو عمرو {إِنِّي} [الأعراف: ١٤٤] بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَذَلِكَ (أَخِيَ اشْدُدْ) ، {بِرِسَالَاتِي} [الأعراف: ١٤٤] قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ بِرِسَالَتِي عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْآخَرُونَ بِالْجَمْعِ، {وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ} [الأعراف: ١٤٤] أعطيتك، {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: ١٤٤] لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي} [الأعراف: ١٤٤] وَقَدْ أُعْطِيَ غَيْرُهُ الرِّسَالَةَ؟ قِيلَ: لَمَّا لَمْ تَكُنِ الرِّسَالَةُ عَلَى الْعُمُومِ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً اسْتَقَامَ قَوْلُهُ: اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ، وَإِنْ شَارَكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ، كَمَا يقول للرجل: خَصَصْتُكَ بِمَشُورَتِي وَإِنْ شَاوَرَ غَيْرَهُ إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمَشُورَةُ عَلَى العموم يكون مستقيما.

[١٤٥] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَتَبْنَا لَهُ} [الأعراف: ١٤٥] يعني لموسى، {فِي الْأَلْوَاحِ} [الأعراف: ١٤٥] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَلْوَاحَ التوراة قال الحسن: كانت الألواح من


(١) أخرجه الترمذي في التفسير ٨ / ٤٥١ وقال: حديث حسن صحيح غريب. والحاكم في المستدرك ٢ / ٣٢٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>