للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَيَخْرُجُونَ إِلَى الَّتِي بَعْدَهَا فَيَتَحَصَّنُونَ فِيهَا وَيَكْسِرُونَ مَا يَلِيهِمْ وَيَرْمُونَ بِالَّتِي خَرَجُوا مِنْهَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فذلك قوله عز وجل: {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: ٢] فَاتَّعِظُوا وَانْظُرُوا فِيمَا نَزَلَ بِهِمْ، {يا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: ٢] يا ذوي العقول والبصائر.

[قوله تعالى وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ] فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ. . .

[٣ - ٤] {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ} [الحشر: ٣] الْخُرُوجَ مِنَ الْوَطَنِ، {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} [الحشر: ٣] بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ كَمَا فَعَلَ بِبَنِي قُرَيْظَةَ، {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ - ذَلِكَ} [الحشر: ٣ - ٤] الَّذِي لَحِقَهُمْ، {بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: ٤]

[٥] {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: ٥] الْآيَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ بِبَنِي النَّضِيرِ وَتَحَصَّنُوا بِحُصُونِهِمْ أمر بقطع نخليهم وَإِحْرَاقِهَا، فَجَزِعَ أَعْدَاءُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ وَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ زَعَمْتَ أَنَّكَ تُرِيدُ الصَّلَاحَ أَفَمِنَ الصَّلَاحِ عَقْرُ الشَّجَرِ وَقَطْعُ النَّخِيلِ؟ فَهَلْ وَجَدْتَ فِيمَا زَعَمْتَ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْكَ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، فَوَجَدَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ وَخَشُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فَسَادًا، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَقْطَعُوا فَإِنَّهُ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْنَا.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَغِيظُهُمْ بِقَطْعِهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، بِتَصْدِيقِ مَنْ نَهَى عَنْ قَطْعِهِ وَتَحْلِيلِ مَنْ قَطَعَهُ مِنَ الإثم، أَخْبَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أن ما قطعتموه وما تركوه فبإذن الله، {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: ٥] وَاخْتَلَفُوا فِي اللِّينَةِ فَقَالَ قَوْمٌ: النَّخْلُ كُلُّهَا لِينَةٌ مَا خَلَا العجوة، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطِيَّةُ: هِيَ النَّخْلُ كُلُّهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ، وَقَالَ سُفْيَانُ: هِيَ كِرَامُ النَّخْلِ.

وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ ضَرْبٌ مِنَ النَّخْلِ يُقَالُ لِثَمَرِهَا اللَّوْنُ، وَهُوَ شَدِيدُ الصُّفْرَةِ يُرَى نَوَاهُ مِنْ خَارِجٍ يَغِيبُ فِيهَا الضِّرْسُ، وَكَانَ مِنْ أَجْوَدِ تَمْرِهِمْ وَأَعْجَبِهَا إِلَيْهِمْ، وَكَانَتِ النَّخْلَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْهَا ثَمَنُهَا ثَمَنُ وَصِيفٍ، وَأَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ وَصِيفٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ يَقْطَعُونَهَا شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: إِنَّكُمْ تَكْرَهُونَ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ وَأَنْتُمْ تُفْسِدُونَ، دَعُوا هَذَا النَّخْلَ قَائِمًا هُوَ لمن غلب عليه، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ.

[٦] {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: ٦] أَيْ: رَدَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، يُقَالُ: فاء يفيء أي رجع وفاءها الله، {مِنْهُمْ} [الحشر: ٦] أَيْ مِنْ يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ، {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} [الحشر: ٦] أَوْضَعْتُمْ، {عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: ٦] يُقَالُ: وَجَفَ الْفَرَسُ وَالْبَعِيرُ يَجِفُ وَجِيفًا وَهُوَ سُرْعَةُ السَّيْرِ، وَأَوْجَفَهُ صَاحِبُهُ إِذَا حَمَلَهُ عَلَى السَّيْرِ، وَأَرَادَ بِالرِّكَابِ الْإِبِلَ الَّتِي تَحْمِلُ الْقَوْمَ.

وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي النَّضِيرِ لَمَّا تَرَكُوا رِبَاعَهُمْ وَضِيَاعَهَمْ طَلَبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْسِمَهَا بَيْنَهُمْ، كَمَا فَعَلَ بِغَنَائِمِ خَيْبَرَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا فَيْءٌ لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا خَيْلًا وَلَا رِكَابًا وَلَمْ يَقْطَعُوا إِلَيْهَا شُقَّةً وَلَا نَالُوا مَشَقَّةً وَلَمْ يَلْقَوْا حَرْبًا.

{وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر: ٦]

<<  <  ج: ص:  >  >>