للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالسُّجُودِ وَضْعَ الْجِبَاهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا هُوَ الِانْحِنَاءُ وَالتَّوَاضُعُ. وَقِيلَ: وَضَعُوا الْجِبَاهَ عَلَى الْأَرْضِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّحِيَّةِ وَالتَّعْظِيمِ، لَا عَلَى طَرِيقِ الْعِبَادَةِ. وَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فَنُسِخَ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ خَرُّوا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سُجَّدًا بَيْنَ يَدَيْ يُوسُفَ. وَالْأَوَّلُ أصح. {وَقَالَ} [يوسف: ١٠٠] يُوسُفُ عِنْدَ ذَلِكَ،؟ {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: ١٠٠] وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: ٤] {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} [يوسف: ١٠٠] رَبِّي، أَيْ: أَنْعَمَ عليَّ، {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: ١٠٠] وَلَمْ يَقُلْ مِنَ الْجُبِّ مَعَ كَوْنِهِ أَشَدَّ بَلَاءً مِنَ السِّجْنِ اسْتِعْمَالًا لِلْكَرَمِ لِكَيْلَا يَخْجَلَ إِخْوَتُهُ بعد ما قَالَ لَهُمْ: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: ٩٢] وَلِأَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ السِّجْنِ أَعْظَمُ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْجُبِّ صَارَ إِلَى الْعُبُودِيَّةِ وَالرِّقِّ، وَبَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ صَارَ إِلَى الْمُلْكِ، وَلِأَنَّ وُقُوعَهُ فِي الْبِئْرِ كَانَ لحسد إخوته وفي السجن كان مُكَافَأَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِزَلَّةٍ كَانَتْ مِنْهُ. {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف: ١٠٠] وَالْبَدْوُ بَسِيطٌ مِنَ الْأَرْضِ يَسْكُنُهُ أَهْلُ الْمَوَاشِي بِمَاشِيَتِهِمْ، وَكَانُوا أَهْلَ بادية ومواشي، يُقَالُ بَدَا يَبْدُو إِذَا صَارَ إِلَى الْبَادِيَةِ. {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ} [يوسف: ١٠٠] أَفْسَدَ، {الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: ١٠٠] بالحسد والبغض، {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ} [يوسف: ١٠٠] أَيْ: ذُو لُطْفٍ، {لِمَا يَشَاءُ} [يوسف: ١٠٠] وقيل: معناه لمن يَشَاءُ. وَحَقِيقَةُ اللَّطِيفِ الَّذِي يُوصِلُ الْإِحْسَانَ إِلَى غَيْرِهِ بِالرِّفْقِ {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: ١٠٠] فَلَمَّا جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى لِيُوسُفَ شَمْلَهُ عَلَى أَنَّ نَعِيمَ الدُّنْيَا لَا يَدُومُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى حُسْنَ الْعَاقِبَةِ فَقَالَ:

[١٠١] {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} [يوسف: ١٠١] يَعْنِي مُلْكَ مِصْرَ، وَالْمُلْكُ: اتِّسَاعُ الْمَقْدُورِ لِمَنْ لَهُ السِّيَاسَةُ وَالتَّدْبِيرُ. {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: ١٠١] يعني: تعبير الرؤيا. {فَاطِرَ} [يوسف: ١٠١] أي: يا فاطر، {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يوسف: ١٠١] أي: خالقهما {أَنْتَ وَلِيِّي} [يوسف: ١٠١] أَيْ: مُعِينِي وَمُتَوَلِّي أَمْرِي، {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} [يوسف: ١٠١] يَقُولُ اقْبِضْنِي إِلَيْكَ مُسْلِمًا، {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: ١٠١] يريد بآبائي النبيين.

[١٠٢] {ذَلِكَ} [يوسف: ١٠٢] الَّذِي ذَكَرْتُ {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} [يوسف: ١٠٢] أَيْ: مَا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ عِنْدَ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ، {إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} [يوسف: ١٠٢] أَيْ: عَزَمُوا عَلَى إِلْقَاءِ يُوسُفَ في الجب، {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف: ١٠٢]

[١٠٣] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ} [يوسف: ١٠٣] يَا مُحَمَّدُ، {وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: ١٠٣] عَلَى إِيمَانِهِمْ. وَرُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ وَقُرَيْشًا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ عَلَى مُوَافَقَةِ التَّوْرَاةِ لَمْ يُسْلِمُوا، فَحَزِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وإن حرصت على إيمانهم.

[قوله تعالى وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا] ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ. . . .

[١٠٤] {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ} [يوسف: ١٠٤] أَيْ: عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، {مِنْ أَجْرٍ} [يوسف: ١٠٤] جعل وجزاء، {إِنْ هُوَ} [يوسف: ١٠٤] مَا هُوَ يَعْنِي الْقُرْآنَ، {إِلَّا ذِكْرٌ} [يوسف: ١٠٤] عظة وتذكير {لِلْعَالَمِينَ} [يوسف: ١٠٤]

[١٠٥] {وَكَأَيِّنْ} [يوسف: ١٠٥] وكم، {مِنْ آيَةٍ} [يوسف: ١٠٥] عِبْرَةٍ وَدَلَالَةٍ، {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: ١٠٥] لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهَا وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا.

[١٠٦] {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: ١٠٦] فَكَانَ مِنْ إِيمَانِهِمْ إِذَا سُئِلُوا: مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ قَالُوا: اللَّهُ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: مَنْ يُنْزِلُ الْقَطْرَ؟ قَالُوا: اللَّهُ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَيُشْرِكُونَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَلْبِيَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هَذَا فِي الدُّعَاءِ وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ نَسُوا رَبَّهُمْ فِي الرَّخَاءِ، فَإِذَا أَصَابَهُمُ الْبَلَاءُ أَخْلَصُوا فِي الدُّعَاءِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس: ٢٢]

<<  <  ج: ص:  >  >>