للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا يُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَأَنَّ أَعْمَالَهُمْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ، {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: ٦٠] لِأَنَّهُمْ يُوقِنُونَ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ الْحَسَنُ: عَمِلُوا لِلَّهِ بِالطَّاعَاتِ وَاجْتَهَدُوا فِيهَا، وخافوا أن ترد عليهم. «عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: ٦٠] أَهْوَ الَّذِي يَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُ؟ قَالَ: "لَا يَا بِنْتَ الصَّدِيقِ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه» (١) .

[٦١] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون: ٦١] يُبَادِرُونَ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: ٦١] أَيْ: إِلَيْهَا سَابِقُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِمَا نُهُوا} [الأنعام: ٢٨] أي: إلى ما نهوا، و {لِمَا قَالُوا} [المجادلة: ٣] وَنَحْوِهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: سبقوا الأمم في الخيرات.

[قوله تعالى وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا] كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ. . . . .

[٦٢] قَوْلُهُ {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [المؤمنون: ٦٢] أَيْ: طَاقَتَهَا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْقِيَامَ فَلْيُصَلِّ قَاعِدًا وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الصَّوْمَ فَلْيُفْطِرْ، {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} [المؤمنون: ٦٢] وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ يُبَيِّنُ بِالصِّدْقِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا إِلَّا مَا أَطَاقَتْ مِنَ الْعَمَلِ، وَقَدْ أَثْبَتْنَا عَمَلَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَهُوَ يَنْطِقُ بِهِ وَيُبَيِّنُهُ. وَقِيلَ: هُوَ كَتْبُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ الَّتِي تَكْتُبُهَا الْحَفَظَةُ، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [المؤمنون: ٦٢] وَلَا يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَلَا يُزَادُ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ.

[٦٣] ثُمَّ ذَكَرَ الْكُفَّارَ فَقَالَ: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} [المؤمنون: ٦٣] أَيْ: فِي غَفْلَةٍ وَجَهَالَةٍ، {مِنْ هَذَا} [المؤمنون: ٦٣] أَيْ: مِنَ الْقُرْآنِ {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} [المؤمنون: ٦٣] أَيْ: لِلْكُفَّارِ أَعْمَالٌ خَبِيثَةٌ مِنَ المعاصي، والخطايا محكومة عليهما مِنْ دُونِ ذَلِكَ، يَعْنِي مِنْ دُونِ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون: ٥٧] {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: ٦٣] لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا فَيَدْخُلُوا بِهَا النَّارَ لِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الشَّقَاوَةِ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّ لَهُمْ أَعْمَالًا سِوَى مَا عَمِلُوا مِنَ الْخَيْرَاتِ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.

[٦٤] {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} [المؤمنون: ٦٤] أَيْ: أَخَذْنَا أَغْنِيَاءَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ، {بِالْعَذَابِ} [المؤمنون: ٦٤] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ السَّيْفُ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي الْجُوعَ حِينَ دَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطَأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِّيِّ يُوسُفَ» (٢) فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْقَحْطِ حَتَّى أَكَلُوا الْكِلَابَ وَالْجِيَفَ. {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون: ٦٤] يجزعون وَيَسْتَغِيثُونَ وَأَصْلُ الْجَأْرِ رَفَعُ الصَّوْتِ بالتضرع.

[٦٥] {لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ} [المؤمنون: ٦٥] أَيْ لَا تَضِجُّوا، {إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} [المؤمنون: ٦٥] لَا تُمْنَعُونَ مَنَّا وَلَا يَنْفَعُكُمْ تَضَرُّعُكُمْ.

[٦٦] {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المؤمنون: ٦٦] يَعْنِي الْقُرْآنَ، {فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} [المؤمنون: ٦٦] تَرْجِعُونَ الْقَهْقَرَى تَتَأَخَّرُونَ عَنِ الْإِيمَانِ.

[٦٧] {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} [المؤمنون: ٦٧] اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْكِنَايَةِ فَأَظْهَرُ الأقاويل أنما تَعُودُ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ كِنَايَةً عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، أَيْ: مُسْتَكْبِرِينَ مُتَعَظِّمِينَ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ وَتَعَظُّمُهُمْ بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ وَجِيرَانُ بَيْتِهِ فَلَا يَظْهَرُ عَلَيْنَا أَحَدٌ وَلَا نَخَافُ أَحَدًا فَيَأْمَنُونَ فِيهِ وَسَائِرُ النَّاسِ فِي الْخَوْفِ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَجَمَاعَةٍ، وَقِيلَ: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ أَيْ بِالْقُرْآنِ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، الْمُرَادُ مِنْهُ


(١) أخرجه الترمذي في التفسير ٩ / ١٩ والإمام أحمد ٦ / ١٥٩ - ٢٠٦ والحاكم ٢ / ٣٩٣ وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، والطبري ١٨ / ٣٤.
(٢) قطعة من حديث أخرجه البخاري في الدعوات ١١ / ١٩٣ ومسلم في المساجد رقم (٦٧٥) ١ / ٤٦٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>