«عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سراياه يفتنون الناس، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ. فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نَعَمْ أَنْتَ» . قَالَ الْأَعْمَشُ: أَرَاهُ قَالَ: فَيَلْتَزِمُهُ (١) . قَوْلُهُ تَعَالَى: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: ٥٠] قَالَ قَتَادَةُ: بِئْسَ مَا اسْتَبْدَلُوا طَاعَةَ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ.
[٥١] {مَا أَشْهَدْتُهُمْ} [الكهف: ٥١] مَا أَحْضَرْتُهُمْ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ (مَا أَشْهَدْنَاهُمْ) بِالنُّونِ وَالْأَلْفِ عَلَى التَّعْظِيمِ، أَيْ أَحْضَرْنَاهُمْ يَعْنِي إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ. وَقِيلَ: الْكُفَّارُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، {خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف: ٥١] يَقُولُ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقًا فَأَسْتَعِينُ بِهِمْ عَلَى خَلْقِهَا وَأُشَاوِرُهُمْ فِيهَا، {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: ٥١] أَيِ الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ يُضِلُّونَ النَّاسَ عضدا أي: أنصارا وأعوانا.
[٥٢] قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ} [الكهف: ٥٢] قَرَأَ حَمْزَةُ بِالنُّونِ وَالْآخَرُونَ بِالْيَاءِ أَيْ: يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة، {نَادُوا شُرَكَائِيَ} [الكهف: ٥٢] يعني الأوثان {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [الكهف: ٥٢] أنهم شركائي، {فَدَعَوْهُمْ} [الكهف: ٥٢] فَاسْتَغَاثُوا بِهِمْ، {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [الكهف: ٥٢] أَيْ لَمْ يُجِيبُوهُمْ وَلَمْ يَنْصُرُوهُمْ {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ} [الكهف: ٥٢] يَعْنِي بَيْنَ الْأَوْثَانِ وَعَبَدَتِهَا وَقِيلَ: بين أهل الهدى وأهل الضلال، {مَوْبِقًا} [الكهف: ٥٢] مَهْلِكًا قَالَهُ عَطَاءٌ وَالضَّحَاكُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ وَادٍ فِي النَّارِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ نَهْرٌ فِي النَّارِ يَسِيلُ نَارًا عَلَى حَافَّتِهِ حَيَّاتٌ مِثْلُ الْبِغَالِ الدُّهْمِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: وَكُلُّ حَاجِزٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَهُوَ مَوْبِقٌ، وَأَصْلُهُ الْهَلَاكُ يُقَالُ: أَوْبَقَهُ أَيْ أَهْلَكَهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَجَعَلْنَا تَوَاصُلَهُمْ فِي الدُّنْيَا مُهْلِكًا لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَالْبَيْنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ التَّوَاصُلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ) عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ.
[٥٣] {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ} [الكهف: ٥٣] أي المشركون، {فَظَنُّوا} [الكهف: ٥٣] أيقنوا، {أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: ٥٣] دَاخِلُوهَا وَوَاقِعُونَ فِيهَا، {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف: ٥٣] مَعْدِلًا لِأَنَّهَا أَحَاطَتْ بِهِمْ مِنْ كل جانب.
[قوله تعالى وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ] كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا. . . .
[٥٤] قَوْلُهُ تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} [الكهف: ٥٤] بَيَّنَّا، {فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الكهف: ٥٤] أَيْ لِيَتَذَكَّرُوا وَيَتَّعِظُوا، {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: ٥٤] خُصُومَةً فِي الْبَاطِلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَجِدَالَهُ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَرَادَ بِهِ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ الْجُمَحِيَّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْكُفَّارُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ} [الْكَهْفِ: ٥٦] وَقِيلَ: هِيَ على العموم، وهذا أصح.
[٥٥] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} [الكهف: ٥٥] الْقُرْآنُ وَالْإِسْلَامُ وَالْبَيَانُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [الكهف: ٥٥] يَعْنِي سُنَّتَنَا فِي إِهْلَاكِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. وَقِيلَ: إِلَّا طَلَبَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ مِنْ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ، كَمَا قَالُوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الْأَنْفَالِ: ٣٢] {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الكهف: ٥٥] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ: عَيَانًا مِنَ الْمُقَابَلَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَجْأَةً، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ {قُبُلًا} [الكهف: ٥٥] بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ، جَمْعُ قَبِيلٍ أَيْ: أَصْنَافُ الْعَذَابِ نَوْعًا نَوْعًا.
[٥٦] {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ} [الكهف: ٥٦] وَمُجَادَلَتُهُمْ قَوْلُهُمْ: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: ٩٤] وقوله: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزُّخْرُفِ: ٣١] وما أشبهه. {لِيُدْحِضُوا} [الكهف: ٥٦] ليبطلوا، {بِهِ الْحَقَّ} [الكهف: ٥٦] وَأَصْلُ الدَّحْضِ الزَّلَقُ يُرِيدُ لِيُزِيلُوا بِهِ الْحَقَّ، {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} [الكهف: ٥٦] فِيهِ إِضْمَارٌ يَعْنِي وَمَا أُنْذِرُوا
(١) أخرجه مسلم في صفات المنافقين برقم (٢٨١٣) (٤ / ٢١٦) والمصنف في شرح السنة (١٤ / ٤١٠) .