للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَضَمِّهَا وَفَتَحِ الْفَاءِ، (تُعَذَّبْ) بِالتَّاءِ وفتح الذال، طائفة عَلَى غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ. وَقَالَ محمد بن إسحاق: الذي عفي عنه رجل واحد وهو مَخْشِيُّ بْنُ حُمَيِّرٍ الْأَشْجَعِيِّ، يُقَالُ: هُوَ الَّذِي كَانَ يَضْحَكُ، وَلَا يَخُوضُ، وَكَانَ يَمْشِي مُجَانِبًا لَهُمْ، وَيُنْكِرُ بَعْضَ مَا يَسْمَعُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَابَ مِنْ نِفَاقِهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أزال أسمع آية تقرأ عني بِهَا تَقْشَعِرُّ الْجُلُودُ مِنْهَا، وَتَجِبُ مِنْهَا الْقُلُوبُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ وَفَاتِي قَتْلًا فِي سَبِيلِكَ لَا يَقُولُ أَحَدٌ أَنَّا غُسِّلْتُ أَنَا كُفِّنْتُ أَنَا دُفِنْتُ، فَأُصِيبَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، فَمَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا عرف مصرعه غيره.

[٦٧] قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: ٦٧] أَيْ: هُمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى النفاق، {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ} [التوبة: ٦٧] بِالشَّرَكِ وَالْمَعْصِيَةِ، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: ٦٧] أَيْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة: ٦٧] أَيْ: يُمْسِكُونَهَا عَنِ الصَّدَقَةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَبْسُطُونَهَا بخير، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: ٦٧] تركوا طاعة الله فتركهم مِنْ تَوْفِيقِهِ وَهِدَايَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ رَحْمَتِهِ فِي الْآخِرَةِ وَتَرَكَهُمْ فِي عَذَابِهِ، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: ٦٧]

[٦٨] {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ} [التوبة: ٦٨] كافيهم جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمْ, {وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ} [التوبة: ٦٨] أبعدهم الله مِنْ رَحْمَتِهِ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة: ٦٨] دائم.

[قوله تعالى كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ] قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا. . . .

[٦٩] {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [التوبة: ٦٩] أَيْ: فَعَلْتُمْ كَفِعْلِ الَّذِينَ مِنْ قبلكم بالعدول من أَمْرِ اللَّهِ، فَلُعِنْتُمْ كَمَا لُعِنُوا {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} [التوبة: ٦٩] بَطْشًا وَمَنَعَةً، {وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} [التوبة: ٦٩] فَتَمَتَّعُوا أَوِ انْتَفَعُوا بِخَلَاقِهِمْ بِنَصِيبِهِمْ مِنَ الدُّنْيَا بِاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ وَرَضُوا بِهِ عِوَضًا عَنِ الْآخِرَةِ، {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ} [التوبة: ٦٩] أَيُّهَا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ، {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ} [التوبة: ٦٩] وسلكتم سبيلهم، {وَخُضْتُمْ} [التوبة: ٦٩] فِي الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ وَبِالِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ، {كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: ٦٩] أَيْ: كَمَا خَاضُوا. وَقِيلَ: كَالَّذِي يَعْنِي كَالَّذِينِ خَاضُوا، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي اسْمٌ نَاقِصٌ، مِثْلُ (مَا) وَ (مَنْ) يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الواحد والجمع، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [الْبَقَرَةِ: ١٧] ثُمَّ قَالَ: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [الْبَقْرَةِ: ١٧] {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: ٦٩] أَيْ: كَمَا حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَخَسِرُوا كذلك حبطت أعمالكم وخسرتم. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جحر ضب لاتبعتموهم» (١) .

[٧٠] قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ} [التوبة: ٧٠] يعني المنافقين، {نَبَأُ} [التوبة: ٧٠] خبر، {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [التوبة: ٧٠] حِينَ عَصَوْا رُسُلَنَا وَخَالَفُوا أَمْرَنَا كَيْفَ عَذَّبْنَاهُمْ وَأَهْلَكْنَاهُمْ ثُمَّ ذَكَرَهُمْ، فقال: {قَوْمِ نُوحٍ} [التوبة: ٧٠] أهُلكوا بالطوفان، {وَعَادٍ} [التوبة: ٧٠] أُهلكوا بالريح {وَثَمُودَ} [التوبة: ٧٠] بالرجفة، {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ} [التوبة: ٧٠] بسلب النعمة وهلاك نمروذ، {وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ} [التوبة: ٧٠] يَعْنِي قَوْمَ شُعَيْبٍ أُهْلِكُوا بِعَذَابِ يوم الظلة، {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} [التوبة: ٧٠] الْمُنْقَلِبَاتِ الَّتِي جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وهي قوم لوط وقُراهم، {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [التوبة: ٧٠] فَكَذَّبُوهُمْ وعصَوْهم كَمَا فَعَلْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْكُفَّارِ فَاحْذَرُوا تَعْجِيلَ النِّقمة، {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة: ٧٠]

[٧١] {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: ٧١] في الدِّين واجتماع الْكَلِمَةِ وَالْعَوْنِ وَالنُّصْرَةِ. {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [التوبة: ٧١] بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَالْخَيْرِ، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: ٧١] عَنِ الشِّرْكِ وَالْمَعْصِيَةِ وَمَا لَا يُعرف فِي الشَّرْعِ، {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [التوبة: ٧١] الْمَفْرُوضَةَ {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: ٧١]

[٧٢] {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} [التوبة: ٧٢] مَنَازِلَ طَيِّبَةً، {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: ٧٢] أَيْ: بَسَاتِينُ خُلْدٍ وَإِقَامَةٍ، يُقَالُ: عَدَنَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التَّوْبَةِ: ٧٢] أَيْ: رِضَا اللَّهِ عَنْهُمْ أَكْبَرُ من ذلك النعيم الذي هم فيه، {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: ٧٢] رَوَيْنَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَفَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بعده أبداً» (٢) .

[قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ] وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. . . .

[٧٣] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: ٧٣] بالسيف والقتل، {وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: ٧٣] وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ جِهَادِ الْمُنَافِقِينَ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَقَالَ: لَا تَلَقَ الْمُنَافِقِينَ إِلَّا بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِاللِّسَانِ وَتَرْكِ الرِّفْقِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِتَغْلِيظِ الْكَلَامِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ. {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ} [التوبة: ٧٣] فِي الْآخِرَةِ {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: ٧٣] قَالَ عَطَاءٌ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ.


(١) أخرجه البخاري في الاعتصام ١٣ / ٣٠٠ ومسلم في=العلم رقم (٢٦٦٩) ٤ / ٢٠٥٤ والمصنف في شرح السنة ١٤ / ٣٩٢.
(٢) أخرجه البخاري في التوحيد ١٣ / ٤٨٧ ومسلم في الجنة وصفة نعيمها رقم (٢٨٢٩) ٤ / ٢١٧٦، والمصنف في شرح السنة ١٥ / ٢٣١.

<<  <  ج: ص:  >  >>