مالك يا زكريا؟ {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} [مريم: ١١] قال مجاهد: كتب لهم بالأرض، {أَنْ سَبِّحُوا} [مريم: ١١] أي صلوا لله {بُكْرَةً} [مريم: ١١] غدوة، {وَعَشِيًّا} [مريم: ١١] أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ عَلَى قَوْمِهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا فَيَأْمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ حَمْلِ امْرَأَتِهِ وَمَنَعَ الكلام خَرَجَ إِلَيْهِمْ فَأَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ إِشَارَةً.
[قوله تعالى يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ] صَبِيًّا. . . .
[١٢] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا يَحْيَى} [مريم: ١٢] قيل: فيه حذف معناه: وهبنا لَهُ يَحْيَى وَقُلْنَا لَهُ: يَا يحيى، {خُذِ الْكِتَابَ} [مريم: ١٢] يعني التوراة، {بِقُوَّةٍ} [مريم: ١٢] بجد، {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ} [مريم: ١٢] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما: النبوة، {صَبِيًّا} [مريم: ١٢] وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْحُكْمِ فَهْمَ الْكِتَابِ، فَقَرَأَ التَّوْرَاةَ وَهُوَ صَغِيرٌ. وَعَنْ بَعْضِ السلف قال. مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ فَهُوَ مِمَّنْ أُوتِيَ الْحُكْمَ صبيا (١) .
[١٣] {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} [مريم: ١٣] رحمة من عندنا {وَزَكَاةً} [مريم: ١٣] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَعْنِي بِالزَّكَاةِ الطَّاعَةَ وَالْإِخْلَاصَ. وَقَالَ قَتَادَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هِيَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَمَعْنَى الْآيَةِ وَآتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَتَحَنُّنًا عَلَى الْعِبَادِ، لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى طَاعَةِ رَبِّهِمْ وَيَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا فِي إِخْلَاصٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي صَدَقَةً تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَى أَبَوَيْهِ، {وَكَانَ تَقِيًّا} [مريم: ١٣] مُسْلِمًا وَمُخْلِصًا مُطِيعًا، وَكَانَ مِنْ تَقْوَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً وَلَا هَمَّ بِهَا.
[١٤] {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ} [مريم: ١٤] أَيْ بَارًّا لَطِيفًا بِهِمَا مُحْسِنًا إِلَيْهِمَا. {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم: ١٤] الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ، وَقِيلَ: الْجَبَّارُ الَّذِي يضرب، ويقتل على الغضب، والعصي العاصي.
[١٥] {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ} [مريم: ١٥] أي: سلام لَهُ، {يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: ١٥] قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَوْحَشُ مَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَوْمَ وُلِدَ فَيَخْرُجُ مِمَّا كَانَ فِيهِ، وَيَوْمَ يَمُوتُ فَيَرَى قَوْمًا لَمْ يَكُنْ عَايَنَهُمْ، وَيَوْمَ يبعث حيا فَيَرَى نَفْسَهُ فِي مَحْشَرٍ لَمْ ير مثله، فخصر يَحْيَى بِالسَّلَامَةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ.
[١٦] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ} [مريم: ١٦] فِي الْقُرْآنِ، {مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} [مريم: ١٦] تنحت واعتزلت، {مِنْ أَهْلِهَا} [مريم: ١٦] من قومها، {مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم: ١٦] أَيْ مَكَانًا فِي الدَّارِ مِمَّا يَلِي الْمَشْرِقَ، وَكَانَ يَوْمًا شَاتِيًا شَدِيدَ الْبَرْدِ فَجَلَسَتْ فِي مَشْرُقَةٍ تَفْلِي رَأْسَهَا. وَقِيلَ: كَانَتْ طَهُرَتْ من الحيض، فَذَهَبَتْ لِتَغْتَسِلَ. قَالَ الْحَسَنُ: وَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ قِبْلَةً.
[١٧] {فَاتَّخَذَتْ} [مريم: ١٧] فضربت، {مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} [مريم: ١٧] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سِتْرًا. وَقِيلَ: جَلَسَتْ وَرَاءَ جِدَارٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَرَاءَ جَبَلٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّ مَرْيَمَ كَانَتْ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِذَا حَاضَتْ تَحَوَّلَتْ إِلَى بَيْتِ خَالَتِهَا حَتَّى إِذَا طَهُرَتْ عَادَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ، فبينما هي تغتسل من الحيض قَدْ تَجَرَّدَتْ إِذْ عَرَضَ لَهَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ شَابٍّ أَمْرَدَ وَضِيءَ الْوَجْهِ جَعْدَ الشَّعْرِ سَوِيَّ الْخَلْقِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ. {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم: ١٧] يَعْنِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: ١٧] وقيل: المراد بالروح عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، جَاءَ فِي صورة بشر فحملت به. الأول أَصَحُّ فَلَمَّا رَأَتْ مَرْيَمُ جِبْرِيلَ يَقْصِدُ نَحْوَهَا نَادَتْهُ مِنْ بَعِيدٍ.
[١٨] و {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: ١٨] مُؤْمِنًا مُطِيعًا، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يُسْتَعَاذُ مِنَ الْفَاجِرِ فَكَيْفَ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا؟ قِيلَ: هَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ: إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَلَا تَظْلِمْنِي أَيْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِيمَانُكَ مَانِعًا مِنَ الظُّلْمِ، وَكَذَلِكَ هاهنا معناه: وينبغي أن يكون تَقْوَاكَ مَانِعًا لَكَ مِنَ الْفُجُورِ.
(١) أخرجه ابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس مرفوعا، وأخرجه ابن أبي حاتم والديلمي موقوفا على ابن عباس. انظر الدر المنثور ٥ / ٤٨٥ كشف الخفا للعجلوني ٢ / ٨٦.