{فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: ٥٤] أَرَادَ بِآلِ إِبْرَاهِيمَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وبالكتاب ما أنزل الله إليهم وَبِالْحِكْمَةِ النُّبُوَّةَ {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: ٥٤] فَمَنْ فَسَّرَ الْفَضْلَ بِكَثْرَةِ النِّسَاءِ فَسَّرَ الْمُلْكَ الْعَظِيمَ فِي حَقِّ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِكَثْرَةِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُ كَانَ لِسُلَيْمَانَ أَلْفُ امْرَأَةٍ ثَلَاثُمِائَةِ حُرَّةٍ وَسَبْعُمِائَةٍ سُرِّيَّةٍ، وَكَانَ لِدَاوُدَ مِائَةُ امْرَأَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا تِسْعُ نِسْوَةٍ، فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ سَكَتُوا.
[٥٥] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ} [النساء: ٥٥] يَعْنِي: بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} [النساء: ٥٥] أَعْرَضَ عَنْهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [النساء: ٥٥] وَقُودًا، وَقِيلَ: الْمُلْكُ الْعَظِيمُ: مُلْكُ سُلَيْمَانَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْهَاءُ فِي قوله: (من آمن به وصد عَنْهُ) رَاجِعَةٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ زَرَعَ ذَاتَ سَنَةٍ، وَزَرَعَ النَّاسُ فَهَلَكَ زَرْعُ النَّاسِ وَزَكَا زَرْعُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَاحْتَاجَ إِلَيْهِ النَّاسُ فَكَانَ يَقُولُ: مَنْ آمَنَ بِي أَعْطَيْتُهُ فَمَنْ آمَنَ بِهِ أَعْطَاهُ، وَمَنْ لَمْ يؤمن به منعه.
[٥٦] قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} [النساء: ٥٦] ندخلهم نارا، {كُلَّمَا نَضِجَتْ} [النساء: ٥٦] احْتَرَقَتْ، {جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: ٥٦] غير الجلود المحترقة، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تُعَذَّبُ جُلُودٌ لَمْ تَكُنْ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ تَعْصِهِ؟ قِيلَ: يُعَادُ الْجِلْدُ الْأَوَّلُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ. وَإِنَّمَا قَالَ: {جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: ٥٦] لتبديل صِفَتِهَا، كَمَا تَقُولُ صَنَعْتُ مِنْ خَاتَمِي خَاتَمًا غَيْرَهُ، فَالْخَاتَمُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ إِلَّا أَنَّ الصِّنَاعَةَ والصفة تبدلت، قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: ٥٦]
[٥٧] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء: ٥٧] كَنِينًا لَا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ وَلَا يُؤْذِيهِمْ حَرٌّ وَلَا بَرْدٌ.
[٥٨] قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النَّسَاءِ: ٥٨] نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنُ طَلْحَةَ الْحَجَبِيِّ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَكَانَ سَادِنَ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ أَغْلَقَ عُثْمَانُ بَابَ الْبَيْتِ وَصَعَدَ السَّطْحَ فَطَلَبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِفْتَاحَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ مَعَ عُثْمَانَ فَطَلَبَهُ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ لم أمنع الْمِفْتَاحُ فَلَوَى عَلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدَهُ فَأَخَذَ مِنْهُ الْمِفْتَاحَ وَفَتَحَ الْبَابَ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ وَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا خَرَجَ سَأَلَهُ الْعَبَّاسُ الْمِفْتَاحَ أَنَّ يُعْطِيَهُ وَيَجْمَعَ لَهُ بَيْنَ السِّقَايَةِ وَالسِّدَانَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرُدَّ الْمِفْتَاحَ إِلَى عُثْمَانَ وَيَعْتَذِرَ إِلَيْهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: أَكْرَهْتَ وَآذَيْتَ ثُمَّ جِئْتَ تَرْفُقَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِكَ قُرْآنًا وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْآيَةَ، فَقَالَ عُثْمَانِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَكَانَ الْمِفْتَاحُ مَعَهُ، فَلَمَّا مَاتَ دَفَعَهُ إِلَى أَخِيهِ شَيْبَةَ، فَالْمِفْتَاحُ وَالسِّدَانَةُ فِي أَوْلَادِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ جَمِيعَ الْأَمَانَاتِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: ٥٨] أَيْ: بِالْقِسْطِ، {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا} [النساء: ٥٨] أَيْ نِعْمَ الشَّيْءُ الَّذِي {يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: ٥٨]
[٥٩] قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: ٥٩] اخْتَلَفُوا فِي (أُولِي الْأَمْرِ) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: هُمُ الْفُقَهَاءُ وَالْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَعَالِمَ دِينِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ، وَدَلِيلُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النِّسَاءِ: ٨٣] وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ. هُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْوُلَاةُ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب رضي الله عه. حَقٌّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَيُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَحَقٌّ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute