الْمِيمِ، أَيْ: لِكَيْ يَحْكُمَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِسُكُونِ اللَّامِ وَجَزَمَ الْمِيمِ عَلَى الْأَمْرِ، قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانِ: أَمَرَ اللَّهُ الرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارَ أن يحكموا بما أنزل الله فِي التَّوْرَاةِ، وَأَمَرَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانَ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ، فَكَفَرُوا وَقَالُوا: عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ وَالْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: ٤٧] الْخَارِجُونَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وجل.
[٤٨] قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [المائدة: ٤٨] يا محمد {الْكِتَابَ} [المائدة: ٤٨] الْقُرْآنَ، {بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: ٤٨] أَيْ: مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ قبل، {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: ٤٨] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَيْ شَاهِدًا عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالْكِسَائِيِّ، قَالَ حَسَّانُ:
إِنَّ الْكِتَابَ مُهْيَمِنٌ لِنَبِيِّنَا ... وَالْحَقُ يَعْرِفُهُ ذَوُو الْأَلْبَابِ
يُرِيدُ: شَاهِدًا وَمُصَدِّقًا، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: دَالًّا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: مُؤْتَمِنًا عَلَيْهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أَمِينًا، وَقِيلَ: أَصْلُهُ مُؤَيْمِنٌ مُفَيْعِلٌ مِنْ أَمِينٍ، كَمَا قَالُوا: مُبيطر مِنَ الْبَيْطَارِ، فَقُلِبَتِ الْهَمْزَةُ هَاءً كَمَا قَالُوا: أَرَقْتُ الْمَاءَ وَهَرَقْتُهُ، وَإِيهَاتَ وَهَيْهَاتَ، وَنَحْوَهَا. وَمَعْنَى أَمَانَةَ الْقُرْآنِ مَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، فَمَا أَخْبَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ عَنْ كِتَابِهِمْ فَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ فَصَدِّقُوا وَإِلَّا فَكَذِّبُوا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالضَّحَّاكُ: قَاضِيًا، وَقَالَ الْخَلِيلُ: رَقِيبًا وَحَافِظًا، وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ، وَمَعْنَى الْكُلِّ: أن كل كتاب يشهد بصدق الْقُرْآنُ فَهُوَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وإلا فلا {فَاحْكُمْ} [المائدة: ٤٨] يا محمد {بَيْنَهُمْ} [المائدة: ٤٨] بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا تَرَافَعُوا إليك، {بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: ٤٨] تعالى بِالْقُرْآنِ، {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: ٤٨] أَيْ: لَا تُعْرِضْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ، {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: ٤٨] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: أَيْ سَبِيلًا وَسُنَّةً، فَالشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ، وَكُلُّ مَا شَرَعَتْ فِيهِ فَهُوَ شَرِيعَةٌ وَشِرْعَةٌ، وَمِنْهُ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ لِشُرُوعِ أَهْلِهَا فِيهَا، وَأَرَادَ بِهَذَا أَنَّ الشَّرَائِعَ مُخْتَلِفَةٌ، وَلِكُلِّ أَهْلِ مِلَّةٍ شَرِيعَةٌ، قَالَ قَتَادَةُ: الْخِطَابُ لِلْأُمَمِ الثَّلَاثِ أُمَّةِ مُوسَى وَأُمَّةِ عِيسَى وَأُمِّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ أجمعين، فالتوراة شريعة والإنجيل شريعة والفرقان شَرِيعَةٌ، وَالدِّينُ وَاحِدٌ وَهُوَ التَّوْحِيدُ. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة: ٤٨] أَيْ: عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ} [المائدة: ٤٨] ليختبركم، {فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة: ٤٨] مِنَ الْكُتُبِ وَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ فَيَتَبَيَّنُ الْمُطِيعُ مِنَ الْعَاصِي وَالْمُوَافِقُ مِنَ الْمُخَالِفِ، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة: ٤٨] فَبَادِرُوا إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: ٤٨]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute