الْجَنَّةَ، إِنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» (١) . {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: ١٨٠] قَرَأَ حَمْزَةُ (يَلْحَدُونَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ حَيْثُ كَانَ وَافَقَهُ الْكِسَائِيُّ فِي النَّحْلِ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ، وَمَعْنَى الْإِلْحَادِ: هُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْمَقْصِدِ، يُقَالُ: أَلْحَدَ يُلحد إِلْحَادًا، وَلَحَدَ يَلْحَدُ لُحُودًا إِذَا مَالَ. قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ السُّكَيْتِ: الْإِلْحَادُ هُوَ الْعُدُولُ عَنِ الْحَقِّ وَإِدْخَالُ مَا لَيْسَ مِنْهُ فيه {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: ١٨٠] هُمُ الْمُشْرِكُونَ عَدَلُوا بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ، فَسَمُّوا بِهَا أَوْثَانَهُمْ، فَزَادُوا، وَنَقَصُوا فَاشْتَقُّوا اللَّاتَ مِنَ اللَّهِ وَالْعُزَّى مِنَ الْعُزَيْزِ وَمَنَاةَ مِنَ الْمَنَّانِ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: هُوَ تَسْمِيَتُهُمُ الْأَصْنَامَ آلِهَةً. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ أَيْ: يَكْذِبُونَ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: الْإِلْحَادُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَسْمِيَتُهُ بِمَا لَمْ يُسَمَّ بِهِ، وَلَمْ يَنْطِقْ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَلَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى التَّوْقِيفِ فإنه يسمى جواد، وَلَا يُسَمَّى سَخِيًّا، وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى الْجَوَادِ، وَيُسَمَّى رَحِيمًا، وَلَا يُسَمَّى رَفِيقًا، وَيُسَمَّى عَالِمًا، ولا يسمى عاقلا {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: ١٨٠] في الآخرة.
[١٨١] قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ} [الأعراف: ١٨١] أَيْ: عِصَابَةٌ، {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: ١٨١] قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. يُرِيدُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وهم الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: «هَذِهِ لَكُمْ وَقَدْ أُعْطِي الْقَوْمُ بين أيديكم مثلها ومع قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ» .
[١٨٢] {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: ١٨٢] قَالَ عَطَاءٌ: سَنَمْكُرُ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ. وَقِيلَ. نَأْتِيهِمْ مِنْ مَأْمَنِهِمْ، كَمَا قَالَ: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الْحَشْرُ: ٢] قَالَ الْكَلْبِيُّ: يُزَيِّنُ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَيُهْلِكُهُمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كُلَّمَا جَدَّدُوا مَعْصِيَةً جَدَّدْنَا لَهُمْ نِعْمَةً. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: نُسْبِغُ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ، وَنُنْسِيهِمُ الشُّكْرَ. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: الِاسْتِدْرَاجُ أَنْ يَتَدَرَّجَ إِلَى الشَّيْءِ فِي خُفْيَةٍ قَلِيلًا قَلِيلًا فَلَا يُبَاغِتُ، وَلَا يُجَاهِرُ، وَمِنْهُ دَرَجَ الصَّبِيُّ إِذَا قَارَبَ بَيْنَ خُطَاهُ فِي الْمَشْيِ، وَمِنْهُ دَرَجَ الْكِتَابَ إِذَا طَوَاهُ شَيْئًا بَعْدَ شيء.
[١٨٣] {وَأُمْلِي لَهُمْ} [الأعراف: ١٨٣] أَيْ: أُمْهِلُهُمْ، وَأُطِيلُ لَهُمْ مُدَّةَ عُمْرِهِمْ لِيَتَمَادَوْا فِي الْمَعَاصِي، {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: ١٨٣] أَيْ: إِنَّ أَخْذِي قَوِيٌّ شَدِيدٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ مَكْرِي شَدِيدٌ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ، فَقَتَلَهُمُ اللَّهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ.
[١٨٤] قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} [الأعراف: ١٨٤] قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى الصَّفَا لَيْلًا فَجَعْلَ يَدْعُو قُرَيْشًا فَخِذًا فَخِذًا يَا بَنِي فُلَانٍ يَا بَنِي فُلَانٍ يُحَذِّرُهُمْ بِأُسَ اللَّهِ وَوَقَائِعَهُ، فَقَالَ قَائِلُهُمْ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا لَمَجْنُونٌ بَاتَ يُصَوِّتُ إِلَى الصَّبَاحِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ} [الأعراف: ١٨٤] مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مِنْ جِنَّةٍ} [الأعراف: ١٨٤] جنون. {إِنْ هُوَ} [الأعراف: ١٨٤] مَا هُوَ، {إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأعراف: ١٨٤] ثُمَّ حَثَّهُمْ عَلَى النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْعِلْمِ فَقَالَ:
[١٨٥] {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ} [الأعراف: ١٨٥] فيهما، {مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: ١٨٥] أَيْ: وَيَنْظُرُوا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ لِيَسْتَدِلُّوا بِهَا عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف: ١٨٥] أَيْ: لَعَلَّ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَيَمُوتُوا قَبْلَ أَنْ يُؤْمِنُوا، وَيَصِيرُوا إِلَى الْعَذَابِ، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: ١٨٥] أَيْ: بَعْدَ الْقُرْآنِ يُؤْمِنُونَ، يَقُولُ: بِأَيِّ كِتَابٍ غَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَدِّقُونَ، وَلَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ وَلَا كِتَابٌ، ثُمَّ ذَكَرَ عِلَّةَ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ:
[١٨٦] {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: ١٨٦] قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَعَاصِمٌ بِالْيَاءِ ورفع الراء، وقرأ
(١) أخرجه البخاري في الدعوات ١١ / ٢١٤ وفي الشروط وفي التوحيد ومسلم في الذكر والدعاء رقم (٢٦٧٧) ٤ / ٢٠٦٢ والمصنف في شرح السنة ٥ / ٣٠.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute