لِأَنَّ أَبْعَاضَهُ وَأَجْزَاءَهُ يَحْجُبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَا يَحْجُبُ عِلْمَ اللَّهِ شيء، وحبل الْوَرِيدِ عِرْقُ الْعُنُقِ، وَهُوَ عِرْقٌ بَيْنَ الْحُلْقُومِ وَالْعِلْبَاوَيْنِ، يَتَفَرَّقُ فِي سائر الْبَدَنِ، وَالْحَبْلُ هُوَ الْوَرِيدُ، فَأُضِيفَ إِلَى نَفْسِهِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ.
[١٧] {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [ق: ١٧] إذ يَتَلَقَّى وَيَأْخُذُ الْمَلَكَانِ الْمُوَكَّلَانِ بِالْإِنْسَانِ عَمَلَهُ وَمَنْطِقَهُ يَحْفَظَانِهِ وَيَكْتُبَانِهِ، {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ} [ق: ١٧] أَيْ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، فَالَّذِي عَنِ الْيَمِينِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ، وَالَّذِي عَنِ الشِّمَالِ يكتب السيئات. {قَعِيدٌ} [ق: ١٧] أَيْ قَاعِدٌ، وَلَمْ يَقُلْ قَعِيدَانِ لِأَنَّهُ أَرَادَ عَنِ الْيَمِينِ قَعِيدٌ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، فَاكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: أَرَادَ قعودا كالرسول يجعل لِلِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الِاثْنَيْنِ: {فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: ١٦] قيل: أَرَادَ بِالْقَعِيدِ الْمُلَازِمَ الَّذِي لَا يَبْرَحُ، لَا الْقَاعِدَ الَّذِي هُوَ ضد القائم. قال مُجَاهِدٌ: الْقَعِيدُ الرَّصِيدُ.
[١٨] {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} [ق: ١٨] مَا يَتَكَلَّمُ مِنْ كَلَامٍ فَيَلْفِظُهُ أَيْ يَرْمِيهِ مِنْ فِيهِ، {إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ} [ق: ١٨] حافظ، {عَتِيدٌ} [ق: ١٨] حَاضِرٌ أَيْنَمَا كَانَ. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَجْتَنِبُونَ الْإِنْسَانَ عَلَى حَالَيْنِ عِنْدُ غَائِطِهِ وَعِنْدَ جِمَاعِهِ.
[١٩] {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} [ق: ١٩] غَمْرَتُهُ وَشِدَّتُهُ الَّتِي تَغْشَى الْإِنْسَانَ وتغلب على عقله، {بِالْحَقِّ} [ق: ١٩] أَيْ بِحَقِيقَةِ الْمَوْتِ، وَقِيلَ: بِالْحَقِّ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَهُ الْإِنْسَانُ وَيَرَاهُ بِالْعِيَانِ. وَقِيلَ: بِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ الْإِنْسَانِ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ. وَيُقَالُ: لِمَنْ جَاءَتْهُ سَكْرَةُ الْمَوْتِ، {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: ١٩] تميل، قال الحسن: تهرب. قال ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكْرَهُ، وَأَصْلُ الحَيْد الْمَيْل، يُقَالُ: حدتُ عَنِ الشَّيْءِ أَحِيدُ حَيْدًا ومَحِيدًا إِذَا مِلْتُ عنه.
[٢٠] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [ق: ٢٠] يَعْنِي نَفْخَةَ الْبَعْثِ، {ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق: ٢٠] أَيْ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمُ الْوَعِيدِ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ لِلْكُفَّارِ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِيهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِالْوَعِيدِ الْعَذَابَ أَيْ يَوْمَ وُقُوعِ الوعيد.
[٢١] {وَجَاءَتْ} [ق: ٢١] ذَلِكَ الْيَوْمَ، {كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ} [ق: ٢١] يسوقها إلى المحشر، {وَشَهِيدٌ} [ق: ٢١] يشهد عليها بما عملت، وهو عمله، قَالَ الضَّحَّاكُ: السَّائِقُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّاهِدُ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: هُمَا جَمِيعًا من الملائكة.
[٢٢] فيقول الله لها: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق: ٢٢] الْيَوْمِ فِي الدُّنْيَا، {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} [ق: ٢٢] الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا عَلَى قَلْبِكَ وَسَمْعِكَ وَبَصَرِكَ، {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: ٢٢] نَافِذٌ تُبْصِرُ مَا كُنْتَ تُنْكِرُ فِي الدُّنْيَا. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: يَعْنِي نَظَرَكَ إِلَى لِسَانِ مِيزَانِكَ حِينَ تُوزَنُ حَسَنَاتُكَ وَسَيِّئَاتُكَ.
[٢٣] {وَقَالَ قَرِينُهُ} [ق: ٢٣] الْمَلِكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ، {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق: ٢٣] مُعَدٌّ مَحْضَرٌ، وَقِيلَ: (مَا) بِمَعْنَى (من) ، وقال مُجَاهِدٌ: يَقُولُ هَذَا الَّذِي وَكَّلَتْنِي بِهِ مِنَ ابْنِ آدَمَ حَاضِرٌ عندك قَدْ أَحْضَرْتُهُ وَأَحْضَرْتُ دِيوَانَ أَعْمَالِهِ.
[٢٤] فَيَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِقَرِينِهِ: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: ٢٤] هَذَا خِطَابٌ لِلْوَاحِدِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ على عادة العرب، يقولون: وَيْلَكَ ارْحَلَاهَا وَازْجُرَاهَا وَخُذَاهَا وَأَطْلِقَاهَا، لِلْوَاحِدِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ أَدْنَى أَعْوَانِ الرَّجُلِ فِي إِبِلِهِ وَغَنَمِهِ وَسِفْرِهِ اثْنَانِ، فَجَرَى كَلَامُ الْوَاحِدِ عَلَى صَاحِبَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الشِّعْرِ لِلْوَاحِدِ خليليَّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا أَمْرٌ لِلسَّائِقِ وَالشَّهِيدِ، وَقِيلَ: للمتلقيينِ. {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: ٢٤] مُعْرِضٍ عَنِ الْحَقِّ. قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: مُجَانِبٌ لِلْحَقِّ مُعَانِدٌ لِلَّهِ.
[٢٥] {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} [ق: ٢٥] أَيْ لِلزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَكُلِّ حَقٍّ وجب في ماله، {مُعْتَدٍ} [ق: ٢٥] ظَالِمٍ لَا يُقِرُّ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ {مُرِيبٍ} [ق: ٢٥] شَاكٍّ فِي التَّوْحِيدِ، وَمَعْنَاهُ: دَاخِلٌ فِي الرَّيْبِ.