فيها عاد طغرلبك إلى بغداد بعد أن استولى على الموصل وأعمالها، وسلمها إلى أخيه إبراهيم ينال، ولما قارب طغرلبك الفقص خرج لتلقيه كبراء بغداد، مثل عميد الملك وزير طغرلبك ببغداد، ورئيس الرؤساء، ودخل بغداد وقصد الاجتماع بالخليفة القائم، فجلس له الخليفة وعليه البردة على سرير عمال عن الأرض نحو سبعة أذرع، وحضر طغرلبك في جماعته، وأحضر أعيان بغداد وكبراء العسكر، وذلك يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة من هذه السنة، فقبل طغريل بك الأرض، ويد الخليفة، ثم جلس على كرسي. ثم قال له رئيس الرؤساء: إن الخليفة قد ولاك جميع ما ولاه الله تعالى من بلاده، ورد إليك مراعاة عباده، فاتق الله فيما ولاك، واعرف نعمته عليك، وخلع على طغريل بك وأعطى العهد، فقبل الأرض ويد الخليفة ثانياً وانصرف، ثم بعث طغريل بك إلى الخليفة خمسين ألف دينار، وخمسين مملوكاً من الأتراك، ومعهم خيولهم وسلاحهم مع ثياب وغيرها.
غير ذلك فيها قبض المستنصر العلوي خليفة مصر على وزيره اليازوري، وهو الحسن بن عبد الله، وكان قاضياً في الرملة على مذهب أبي حنيفة، ثم تولى الوزارة، ولما قبض وجد له مكاتبات إلى بغداد. وفيها توفي أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري الأعمى وله نحو ست وثمانين سنة، ومولده سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، وقيل ست وستين وثلاثمائة، واختلف في عماه، والصحيح أنه عمي في صغره من الجدري، وهو ابن ثلاث سنين، وقيل ولد أعمى، وكان عالماً لغوياً شاعراً، ودخل بغداد سنة تسع وتسعين وثلاثمائة وأقام بها سنة وسبعة أشهر، واستفاد من علمائها، ولم يتلمذ أبو العلاء لأحد أصلا، ثم عاد إلى المعرة ولزم بيته، وطبق الأرض ذكره، ونقلت عنه أشعار وأقوال علم بها فساد عقيدته، ونسب إلى التمذهب بمذهب الهنود، لتركه أكل اللحم خمساً وأربعين سنة، وكذلك البيض واللبن، وكان يحرم إيلام الحيوان، وله مصنفات كثيرة، أكثرها ركيكة، فهجرت لذلك، وكان يظهر الكفر ويزعم أن لقوله باطناً، وأنه مسلم في الباطن فمن شعره المؤذن بفساد عقيدته قوله:
عجبت لكسري وأشياعه ... وغسل الوجوه ببول البقر
وقول النصارى إله يضام ... ويظلم حيا ولا ينتصر
وقول اليهود إله يحب ... رسيس الدماء وريح القتر
وقوم أتوا من أقاصي البلد ... لرمي الجمار ولثم الحجر