وكانت القصص توضع بين يديه مع الخدام، فيكتب بيده عليها وتخرج للموقعين، وكان لا يستقل أحد من أهل دولته بأمر من الأمور إلا بعد مشاورته بالقصص، وكان غاوياً بالعمارة، بنى قلعة الجزيرة، وبنى الصالحية، وهي بلدة بالسائح، وبنى له بها قصوراً للتصيد، وبنى قصراً عظيماً بين مصر والقاهرة، يسمى بالكبش.
وكانت أم الملك الصالح أيوب المذكور، جارية سوداء تسمى ورد المنى، غشيها السلطان الملك الكامل، فحملت بالملك الصالح، وكان للملك الصالح ثلاثة أولاد، أحدهم فتح الدين عمر، توفي في حبس الصالح إسماعيل، وكان قد توفي ولده الآخر قبله، ولم يكن قد بقي له غير المعظم توران شاه، بحصن كيفا، ومات الملك الصالح ولم يوص بالملك إلى أحد، فلما توفي أحضرت شجرة الدر، وهي جارية الملك الصالح، فخر الدين ابن الشيخ، والطواشي جمال الدين محسناً، وعرفتهما بموت السلطان، فكتموا ذلك خوفاً من الفرنج، وجمعت شجر الدر الأمراء، وقالت لهم: السلطان يأمركم أن تحلفوا له، ثم من بعده لولده الملك المعظم توران شاه، المقيم بحصن كيفا، وللأمير فخر الدين ابن الشيخ بأتابكية العسكر، وكتب إلى حسام الدين ابن أبي علي، وهو النائب بمصر بمثل ذلك، فحلفت الأمراء والأجناد والكبراء بالعسكر وبمصر وبالقاهرة على ذلك، في العشر الأوسط من شعبان هذه السنة، وكان بعد ذلك تخرج الكتب، المراسم وعليها علامة الملك الصالح، وكان يكتبها خادم يقال له السهيلي، فلا يشك أحد في أنه خط السلطان، فأرسل فخر الدين ابن الشيخ قاصداً لإحضار الملك المعظم من حصن كيفا، ولما جرى ذلك، شاع بين الناس موت السلطان، ولكن أرباب الدولة لا يجسرون أن يتفوهوا بذلك، وتقدم الفرنج عن دمياط إلى المنصورة، وجرى بينهم وبين المسلمين في مستهل رمضان من هذه السنة وقعة عظيمة، استشهد فيها جماعة من كبار المسلمين، ونزلت الفرنج بحر مساح، ثم قربوا من المسلمين، ثم إن الفرنج كبسوا المسلمين على المنصورة بكرة الثلاثاء لخمس مضين من ذي القعدة، وكان فخر الدين يوسف ابن الشيخ صدر الدين ابن حمويه في الحمام بالمنصورة، فركب مسرعاً، وصادفه جماعة من الفرنج فقتلوه، وكان سعيداً في الدنيا، ومات شهيداً.
ثم حملت المسلمون والترك البحرية على الفرنج، فردوهم على أعقابهم، واستمرت بهم الهزيمة، وأما الملك المعظم توران شاه، فإنه سار من حصن كيفا ووصل إلى دمشق، في رمضان من هذه السنة، وعّيد بها عيد الفطر، ووصل إلى المنصورة يوم الخميس لتسع بقين من ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة سبع وأربعين وستمائة، ثم اشتد القتال بين المسلمين والفرنج براً وبحراً، ووقعت مراكب المسلمين على الفرنج، وأخذوا منهم اثنين وثلاثين مركباً، منها تسع شواني، فضعفت الفرنج لذلك، وأرسلوا يطلبون القدس وبعض الساحل، وأن يسلموا دمياط إلى المسلمين، فلم تقع الإجابة إلى ذلك.