ومن نثره الذي يقرأ طرداً وعكساً قوله: " سور حماة بربها محروس " ولما بلغني خبر وفاته، كتبت كتاباً إلى ابن ابنه القاضي نجم الدين عبد الرحيم ابن القاضي شمس الدين إبراهيم ابن قاضي القضاة شرف الدين المذكور. صورته وينهي أنه بلغ المملوك وفاة الحبر الراسخ، بل انهداد الطود الشامخ، وزوال الجبل الباذخ، الذي بكته السماء والأرض، وقابلت فيه المكروه بالندب، وذلك فرض، فشرقت أجفان المملوك بالدموع، واحترق قلبه بين الضلوع، وساواه في الحزن الصادر والوارد، واجتمعت القلوب لما تم لمأتم واحد، فالعلوم تبكيه، والمحاسن تعزى فيه، والحكم ينعاه، والبر يتفداه، والأقلام تمشي على الرؤوس لفقده، والمصنفات تلبس حداد المداد من بعده.
ولما صلي عليه يوم الجمعة صلاة الغائب بحلب، اشتد الضجيج، وارتفع النشيج، وعلت الأصوات، فلا خاص إلا حزن قلبه، ولا عام إلا طار لبه، فإنه مصاب زلزل الأرض، وهدم الكرم المحض، وسلب الأبدان قواها، ومنع عيون الأعيان كراها، ولكن عزى الناس لفقده، كون مولانا الخليفة من بعده، فإنه بحمد الله خلف عظيم، لسلف كريم، وهو أول من قابل هذا الفادح القادح بالرضا، وسلم إلى الله سبحانه فيما قضى، فإنه سبحانه يحيي ما كانت الحياة أصلح، ويميت إذا كانت الوفاة أروح، وقد نظم المملوك فيه مرثية أعجزه عن تحريرها اضطرام صدره، وحمله على تسطيرها انتهاب صبره، وها هي:
برغمي أن بينكم يضام ... ويبعد عنكم القاضي الإمام
سراج للعلوم أضاء دهراً ... على الدنيا لغيبته ظلام
تعطلت المكارم والمعالي ... ومات العلم وارتفع الطغام
عجبت لفكرتي سمحت بنظم ... أيسعدني على شيخي نظام
وأرثيه رثاء مستقيماً ... ويمكنني القوافي والكلام
ولو أنصفته لقضيت نحبي ... ففي عنقي له نعم جسام
حشا أذني دراً ساقطته ... عيوني يوم حم له الحمام
لقد لؤم الحمام فإن رضينا ... بما يجني فنحن إذاً لئام
ألا يا عامنا لا كنت عاماً ... فمثلك ما مضى في الدهر عائم
أتفجعنا بكتاني مصر ... وكان به لساكنها اعتصام
وتفتك بابن جملة في دمشق ... ويعلوها لمصرعه القتام
وكان ابن المرحل حين يبكي ... لخوف الله تبتسم الشآم
وحبر حماة تجعله ختاماً ... أذاب قلوبنا هذا الختام
ولما قام ناعيه استطارت ... عقول الناس واضطرب الأنام