كمال الدين عمر بن شهاب الدين محمد بن العجمي الحلبي، كان قد تفنن وعرف أصولاً وفقهاً، وبحث على شرح الشافية الكافية في النحو مرة، وبعض أخرى، ودفن ببستانه، رحمه الله، وما خرج من بني العجمي مثله.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وسبعمائة.
فيها في صفر، حوصرت الكرك، ونقبت، وأخذ الملك الناصر أحمد، وحمل إلى أخيه الملك الصالح بمصر، فكان آخر العهد به.
وفيها وصل إلى ابن دلغارد أمان من السلطان، وأفرج عن حريمه، وكن بحلب، واستقر في الأبلستين.
وفيها في ربيع الآخر، بلغنا وفاة الشيخ أثير الدين، أبي حيان النحوي المغربي بالقاهرة، كان بحراً زاخراً في النحو، وهو فيه ظاهري، وكان يستهزئ بالفضلاء من أهل القاهرة، ويحتملونه لحقوق اشتغالهم عليه، وكان يقول عن نفسه: أنا أبو حيات - بالتاء - يعني بذلك تلاميذه، وله مصنفات جليلة منها: تفسير القرآن العظيم، وشرح التسهيل، وارتشاف الضرب من ألسنة العرب مجلد كبير جامع، ومختصرات في النحو، وله نظم ليس على قدر فضيلته، فمن أحسنه قوله:
وقابلني في الدرس أبيض ناعم ... وأسمر لدن أورثا جسمي الردى
فذا هز من عطفيه رمحاً مثففاً ... وذال سل من جفنيه عضباً مهندا
وفيها في جمادى الأولى، توفي بحلب، الحاج محمد بن سلمان الحلبي المعزم، كان عنده ديانة وإيثار، وله مع المصروعين وقائع وعجائب.
وفيه توفي بطرابلس الأمير الفاضل صلاح الدين يوسف بن الأسعد الدواتدار، أحد الأمراء بطرابلس، وهو واقف المدرسة الصلاحية بحلب كما تقدم، وكان من أكمل الأمراء، ذكياً فطناً معظماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حسن الخط، وله نظم، كان كاتباً، ثم صار دواتدار قبجق بحماة، ثم شاد الدواوين بحلب، ثم حاجباً بها، ثم دواتدار الملك الناصر، ثم نائباً بالإسكندرية، ثم أميراً بحلب، وشاد المال والوقف، ثم أميراً بطرابلس رحمه الله تعالى.
وفيها في شعبان، بلغنا وفاة الشيخ نجم الدين القحفيزي بدمشق، فاضل في العربية والأصلين، ظريف حسن الأخلاق، ومن ذلك أنه أنشد مرة قول الشاعر: أيا نخلتي سلمى إلخ. فقال له بعض التلامذة: يا سيدي وما تيس الماء؟ فقال الشيخ: إن شئت أن تنظره فانظر في الخابية تره.
وفيها توفي بدمشق قاضي القضاة جلال الدين الحنفي الأطروش.
وفيها توفي الأمير علاء الدين أيدغدي الزراق، أتابك عسكر حلب، مسناً، وله سماع، وحكى لي أنه حر الأصل من أولاد المسلمين، وهو فاتح قلعة خندروس كما تقدم.
وتوفي كندغدي، العمري نائب البيرة مسناً، عزل عنها قبل موته بأيام، وعزموا على الكشف عليه، فستره الله بالوفاة، ببركة. محبتة للعلماء والفقراء.
وسيف الدين بلبان جركس، نائب قلعة المسلمين، طال مقامه بها وخلف مالاً كثيراً لبيت المال.
وفيها في شهر رمضان، اتفق سيل عظيم بطرابلس، وهلك فيه خلق منهم ابنا القاضي تاج الدين محمد بن البارنباري، كاتب سرها، وكان أحد الابنين الغريقين ناظر الجيش بها، والآخر موقع الدست، ورق الناس لأبيهما، فقلت وفيه تضمين واهتدام:
وارحمتاه له فإن مصابه ... بابن يبرحه فكيف ابنان
ما أنصفته الحادثات رمينه ... بمودعين وما له قلبان
وزاد نهر حماة وغرق دوراً كثيرة، ولطم العاصي خرطلة شيزر فأخذها، وتلفت بساتين البلد لذلك، ويحتاج إعادتها إلى كلفة كبيرة.
وفيها في ذي القعدة، توفي بدمشق القاضي شمس الدين محمد بن النقيب الشافعي، وتولى تدريس الشامية مكانه، تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي، ثم تولاها السبكي بنفسه، خوفاً عليها، كان ابن النقيب بقية الناس، ومن أهل الإيثار، وأقام حرمة المنصب لما كان قاضي حلب فقيهاً كبيراً محدثاً أصولياً متواضعاً مع الضعفاء، شديداً على النواب. قال رحمه الله: دخلت وأنا صبي أشتغل على الشيخ محي الدين النووي، فقال لي: أهلاً بقاضي القضاة، فنظرت فلم أجد عنده أحداً غيري، فقال: اجلس يا مدرس الشامية وهذا من جملة كشف الشيخ محي الدين.
وابن النقيب حكى هذا بحلب قبل توليته الشامية. وحكى لي يوماً، وإن كنت قد وقفت عليه في مواضع من الكتب، أنه رفع إلى أبي يوسف، صاحب أبي حنيفة، رضي الله عنهما، مسلم قتل كافراً، فحكم عليه بالقود، فأتاه رجل برقعة ألقاها إليه. فيها:
يا قاتل المسلم بالكافر ... جرت وما العادل كالجائر
يا من ببغداد وأعمالها ... من علماء الناس أو شاعر
استرجعوا وابكوا على دينكم ... واصطبروا فالأجر للصابر
فبلغ الرشيد ذلك، فقال لأبي يوسف: تدارك هذا الأمر بحيلة لئلا تكون فتنة. فطالب أبو يوسف أصحاب الدم ببينة على صحة الذمة وثبوتها، فلم يأتوا بها، فأسقط القود.
وحكى لنا يوماً في بعض دروسه بحلب، أن مسألة ألقيت على المدرسين والفقهاء بدمشق، فما حلها إلا عامل المدرسة، وهي: رجل صلى الخمس بخمسة وضوءات، وبعد ذلك علم أنه ترك مسح