الصناعة وهو موضع للجلاء والكشف والمبالغة في البيان والعبارة عن الخفي بالجلي، والمتوهم بالمحسوس والحقير بالخطير والشيء بما هو أعظم منه وأحسن أو أخس وأدون وعن القليل الوجود بالمألوف المعهود، وكل هذا تأكيد في البيان والمبالغة في الإيضاح، فانظر إلى قول امرأة: زوجي بخيل لا يوصل إليّ شيء مما عنده، وإلى كلام هذه المرأة فقد شبهت بخل زوجها وأنه لا يوصل إلى ما عنده مع شراسة خلقه وكبر نفسه بلحم الجمل الغث على رأس الجبل الوعث، فشبهت وعورة خلقه بوعورة الجبل وبعد خيره ببعد اللحم على رأسه والزهد فيما يرجى منه لقلته وتعذره بالزهد في لحم لجمل الغث فأعطت التشبيه حقه ووفته قسطه، وهذا من تشبيه الجلي بالخفي والمتوهم بالمحسوس والحقير بالخطير، ثم انظر أيضًا حسن نظم كلامها ونضارته وأخذه حقه من المؤالفة والمناسبة في الألفاظ التي هي رأس الفصاحة وزمام البلاغة فإنها وازنت ألفاظها وماثلت كلماتها وقدّرت فقرها وحسنت أسجاعها فوازنت في الفقرة الأولى لحم برأس في الثانية وجمل بجبل وغث بوعث وقحر بوعر فأفرغت كل فقرة في قالب أختها ونسجتها على منوال صاحبتها، ثم في كلامها أيضًا نوع آخر من البديع وهو الموازنة ويسمى الترصيع والتسميط والتصفير والتسجيع وهو أن تتضمن الفقر أو بيت الشعر مقاطع أخر بقوافٍ متماثلة غير فقر السجع وقوافي الشعر اللازمة فيتوشح بها القول وينفصل بها نظم اللفظ، كما أتت هذه المرأة بجمل في وسط الفقرة الأولى وجبل في وسط الفقرة الأخرى، ففصلت بذلك الكلام على جزء من المقابلة أثناء السجعتين اللتين هما غث ووعث لكل فقرة سجعتان متقابلتان متماثلتان، ثم في كلامها أيضًا نوع من البديع يسمى المطابقة وهو مقابلة الشيء بضده فقابلت الوعر بالسهل والغث بالسمين في الفقرتين الأخيرتين وهو مما يحسن الكلام ويروق بمناسبته، وفي طيه أيضًا نوع من المجانسة وهو تجانس جمل بجبل وهو وإن لم يجانسه في كل حروفه فقد جانسه في أكثرها، ثم في كلامها أيضًا نوع من البديع وهو حسن التفسير وغرابة التقسيم وإبداع حمل اللفظ على المعنى والمعنى على المعنى في المقابلة والترتيب وذلك في قولها: لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى، فإنها فسرت ما ذكرت، وبينت حقيقة ما شبهت، وقسمت كل قسم على حياله، وفصلت كل فصل من مثاله، وجاءت للفقرتين الأولين بفقرتين مفسرتين، وقابلت لا سهل فيرتقى بقولها: ولا سمين فينتقى، وهذا يسمى المقابلة عند أهل النقد. ووقع في رواية النسائي بتقديم لا سمين لعوده على اللحم المقدم وتأخير سهل لعطفه على الجبل المؤخر فيكون أوّل تفسير لأوّل مفسر وهو قولها كلحم جمل والثاني للثاني فحملت اللفظ على اللفظ، ثم ردت المقدم على المقدم والمؤخر على المؤخر فتقابلت معاني كلماتها وترتبت ألفاظها. ثم في كلامها أيضًا نوع من البديع وهو التزام ما لا يلزم في سجعها وهو قولها فيرتقى وينتقى فالتزمت القاف والتاء في كل سجع قبل القافية وقافية سجعها الياء المقصورة، وهذا نوع زيادة في تحسين الكلام وتماثله وإغراق في جودة تشابهه وتناسبه، ثم فيه أيضًا نوع من البديع يسمى الإيغال وهو أن يتم كلام الشاعر قبل البيت أو الناثر قبل السجع إن كان كلامه مسجعًا وقبل الفصل والقطع إن لم يكن كذلك فيأتي بكلمة لتمام قافية البيت أو السجع