الأمر الثالث الذي تضمَّنه جوابه: جواز التخصيص بقصد المتكلم وبالقرائن، وهذا هو الواجب في كلام الواقفين والموصين والمقرِّين، كما هو أصله في أيمان الحالفين.
والواجب طَرْد هذا الأصل في كلامٍ للمكلَّف يترتب عليه أمرٌ شرعي، فإن الكلام إنما يترتب عليه موجبه لدلالته على قصد صاحبه، فإذا ظهر قصده لم يجز أن يُعدَل عنه إلى عموم كلامه وإطلاقه، فإن ذلك غلطٌ وتغليطٌ، وجميع الأمم على اختلاف لغاتها تُراعي مقاصدَ المتكلمين وإراداتِهم وقرائنَ كلامهم. ولو سُئل أحدهم عن جاريته وقيل له: إنها فاجرةٌ، فقال: كلا، بل هي عفيفةٌ حرةٌ= لم يشكُّوا أنه لم يُرِد عتقَها ولا خطر بباله، فإلزامه بعتقها بمجرد ذلك خطأٌ.
واللفظ إنما يكون صريحًا إذا تجرد عن القرائن الصارفة له عن موضوعه عند الإطلاق، ولهذا لو وصل قوله:(أنت طالقٌ) بقوله: (من وَثاقٍ) لم يكن صريحًا. وكذا لو دُعي إلى غداءٍ فقال: والله لا أتغدى، لم يشك هو ولا عاقلٌ أنه لم يُرِد تركَ الغداء أبدًا إلى آخر العمر، فإلزامه بما لم يُرِده قطعًا بناءً على إطلاقِ لفظٍ لم يُرِد إطلاقَه وتعميمِ ما لم يُرِد عمومَه= إلزامٌ بما لم يُلْزِمه ولا ألزمه الله ورسوله به، وبالله التوفيق.