للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أولى منه بالآخر، كما أنَّ الورق قبل الكتابة لا يثبت له حكمُ مدحٍ ولا حكم ذمٍّ، والتراب قبل أن يبنى مسجدًا أو كنيسةً لا يثبت له حكمُ واحدٍ منهما. وبالجملة: فكلُّ ما كان قابلًا للممدوح والمذموم على السواء لم يستحِقَّ مدحًا ولا ذمًّا، والله تعالى يقول: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اَللَّهِ اِلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِللَّهِ} [الروم: ٢٩]، فأمره بلزوم فطرته التي فطر الناس عليها، فكيف لا تكون ممدوحةً؟!

وأيضًا: فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - شبَّهها بالبهيمة المجتمعة الخَلْق، وشبَّه ما يَطرَأ عليها من الكفر بجَدْعِ الأنف والأذن، ومعلومٌ أنَّ كمال الخِلقة ممدوحٌ ونقصَها مذمومٌ، فكيف تكون قبل النقص لا ممدوحةً ولا مذمومةً؟!

فصل (١)

وإن كان المراد بهذا القول ما قاله طائفةٌ من الناس أنَّ المعنى أنَّهم وُلِدوا على الفطرة السليمة التي لو تُرِكت على صحتها لاختارت المعرفة على الإنكار، والإيمان على الكفر، ولكن بما عرض لها من الفساد خرجت عن هذه الصحة= فهذا القول قد يقال: إنه لا يَرِد عليه ما يرد على الذي قبله، فإنَّ صاحبه يقول: في الفطرة قوةٌ تميل بها إلى المعرفة والإيمان، كما في البدن الصحيح قوةٌ يحبُّ بها (٢) الأغذيةَ النافعة. وبهذا كانت محمودةً، وذُمَّ من أفسدها.

لكن يقال: فهذه الفطرة التي فيها هذه القوة والقبول والاستعداد والصلاحية، هل هي كافيةٌ في حصول المعرفة، أو تقف المعرفة على أدلةٍ


(١) الفصل من المؤلف، ولا يزال الكلام لشيخ الإسلام.
(٢) في الأصل: «لها»، والمثبت من «الدرء» و «شفاء العليل» (٢/ ٤٤٤).