للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولا ينتقض هذا بالمجوس، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يُسَنَّ بهم سنةَ أهل الكتاب، وهذا يدلُّ على أن الجزية إنما تُؤخذ من أهل الكتاب، وأنها إنما وُضِعت لأجلهم خاصةً، وإلا لو كانت الجزية تعمُّ جميعَ الكفار لم يكن أهل الكتاب أولى بها من غيرهم، ولقال: لهم حكم أمثالهم من الكفَّار يقاتَلون حتى يُسلِموا أو يعطوا الجزية.

وأما تحريم ذبائحهم ومناكحتهم فاتفاقٌ من الصحابة - رضي الله عنهم -، ولهذا أنكر الإمام أحمد وغيره على أبي ثورٍ طَرْدَه القياسَ وإفتاءه بحلِّ ذبائحهم وجواز مناكحتهم (١)، ودعا عليه أحمد (٢) حيث أقدمَ على مخالفة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والصحابة كانوا أفقه وأعلم وأسدَّ قياسًا ورأيًا، فإنهم أخذوا في الدماء بحَقْنِها موافقةً لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعله حيث أخذَها منهم، وأخذوا في الأبضاع والذبائح بتحريمها احتياطًا وإبقاءً لها على الأصل، وإلحاقًا لهم بعبَّاد الأوثان، إذ لا فرقَ في ذلك بين عبَّاد الأوثان وعبَّاد النيران، فالأصل في الدماء حقْنُها، وفي الأبضاع والذبائح تحريمها، فأبقَوا كلَّ شيء على أصله، وهذا غاية الفقه وأسدُّ ما يكون من النظر.

قالوا: ولله تعالى حِكَمٌ في إبقاء أهل الكتابين بين أظهُرِنا، فإنهم مع كفرهم شاهدون بأصل النبوات والتوحيد واليوم الآخر والجنة والنار، وفي كتبهم من البشارات بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وذكرِ نعوته وصفاته وصفات أمته ما هو من آيات نبوته وبراهين رسالته، وما يشهد بصدق الأول والآخر.


(١) انظر: "الجامع" للخلال (١/ ٢٤١ و ٢/ ٤٦٩، ٤٧٠).
(٢) كما في "مسائل إسحاق بن إبراهيم" (٢/ ١٦٨).