للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سليمةً، ثم يَجْدَعها الناس، وذلك أيضًا بقضاء الله وقَدَره. فكذلك المولود يُولَد على الفطرة مسلمًا، ثم يُفسِده أبواه.

وإنَّما قال أحمد وغيره: وُلِد على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة؛ لأنَّ القدرية كانوا يحتجون بهذا الحديث على أنَّ الكفر والمعاصي ليس (١) بقدر الله، بل بما فعله الناس، لأنَّ كل مولود يولد على الفطرة، وكُفْره بعد ذلك من الناس. ولهذا لما قيل لمالك: إنَّ القدرية يحتجُّون علينا بأول الحديث، قال: احتجوا عليهم بآخره، وهو قوله: «الله أعلم بما كانوا عاملين» (٢).

فبيَّن الأئمة أنَّه لا حُجَّةَ فيه للقدرية، فإنَّه لم يقل: إنَّ الأبوين خلَقَا تهويدَه وتنصيرَه، والقدرية لا تقول ذلك بل عندهم أنَّه تهوَّد وتنصَّر باختياره، ولكن كان الأبوان سببًا في حصول ذلك بالتعليم والتلقين. وهذا حقٌّ لا يقتضي نفي القدَر السابق من العلم والكتاب والمشيئة، بل ذلك مضافٌ إلى الله تعالى علمًا وكتابةً ومشيئةً، وإلى الأبوين تسبُّبًا وتعليمًا وتلقينًا، وإلى الشيطان تزيينًا ووسوسةً، وإلى العبد رِضًا واختيارًا ومحبةً.

ولا ينافي هذا قوله في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: «إنَّ الغلام الذي قتَلَه الخضر طُبِع يومَ طبع كافرًا، ولو عاش لأَرهَق أبويه طغيانًا وكفرًا» (٣)، فإنَّ معناه أنَّه قضي عليه وقدِّر في أمِّ الكتاب أنَّه يكون كافرًا، فهي حالٌ مقدرةٌ


(١) وفي المطبوع: «ليست». والمثبت من الأصل موافق لـ «درء التعارض» و «شفاء العليل».
(٢) أسنده أبو داود في «السنن» (٤٧١٥) ــ ومن طريقه البيهقي في «القضاء والقدر» (٦٠٥) ــ وهبة الله الطبري في «شرح السنة» (١٠٠٠) من رواية ابن وهب عن مالك.
(٣) أخرجه مسلم (٢٦٦١) من حديث عبد الله بن عباس عن أبي بن كعب - رضي الله عنهم -.