للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقبله شيخُه أبو المَعالي الجُوَينيُّ (ت ٤٧٨ هـ) (١) وهو عَمودُ الأشعريَّةِ الكُلَّابيَّة، كان «مع فرطِ ذكائِه، وإمامتِه في الفروعِ وأصولِ المذهب، وقوِّةِ مُناظرتِه، لا يدري الحديثَ كما يَليقُ به، لا مَتنًا ولا إسنادًا» (٢)، وقد ورث مقالةَ عبد الجبَّار في كلامِه على بعضِ الصِّفات الإلهيَّة، فيدفعُ بها في نحرِ الصِّحاحِ من الأخبار، ويتكَلَّف في إيجادِ مَنفذٍ في طرائِق نَقْلِها ليَصِل مِن خلالِها إلى تضعيفِها، فإذا أصابه الذُّهول مِن متانةِ دعائم تلك النُّقول، تكلَّف بكلامٍ في علم الحديث لو أحجَم عنه بادئ الأمر كانَ خيرًا له.

من ذلك -مثلًا- قولُه في حديث النُّزول المَشهور (٣): «إنَّ الحديثَ وإن رواه الأثبات، ونقلَه الثِّقات، فلم يُجمع أهل الصَّنعة على صِحَّتِه، على معنى أنَّه منقول عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم قطعًا، وإنَّما انكفَّ أهل التَّعديل عن التَّعرُّض للحديث الَّذي نَقلوه، مِن حيث لم يظهر ما يَتضمَّن مَطعنًا وقدحًا في النَّقَلة، وهم مع ذلك يُجوِّزون على رُواة الخبر أن يزلُّوا ويغلطوا .. » (٤).

وهكذا ترى الجُوينيَّ يَستميتُ في منعِ كونِ الرُّسولِ صلى الله عليه وسلم أخبرَ بمثلِ هذا الحديث وهو مَقطوعِ بصحَّتِه عند أهل النَّقد، ولو بأضعفِ الأدلَّة، بل أجاز الإضرابَ عن الصِّحاحِ مِن الأحاديثِ في باب العقائد، لكونِها مِن قَبيل الآحاد، كما تفعلُ المُعتزلة تمامًا، ترى شيئًا من ذلك في مَعرض ردِّه على مَن سَمَّاهم


(١) عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجُوَيْني، أبو المعالي: الملقَّب بإمام الحرمين، أعلم المتأخرين من أصحاب الشافعيِّ، بنى له الوزير (نظام الملك) المدرسة النِّظامية، فدرَّس فيها، وكان يحضر دروسه أكابر العلماء، له مصنفات كثيرة، منها «غياث الأمم والتياث الظلم» و «العقيدة النظامية» و «نهاية المطلب في دراية المذهب» في فقه الشَّافعية، انظر «أعلام النبلاء» (١٨/ ٤٦٨).
(٢) «سير أعلام النبلاء» (١٨/ ٤٧١).
(٣) وهو ما اتَّفق عليه البخاري (رقم: ١١٤٥) ومسلم (رقم: ٧٥٨) واللفظ له، من حديث أبي هريرة مرفوعا: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ ومن يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له؟».
(٤) «الشَّامل» للجويني (ص/٥٥٧ - ٥٥٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>