للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المَبحث الثَّاني

طريقة تصنيف «الجامع الصَّحيح» فرعٌ عن مقصدِ تأليفِه

بعد أنْ خَبَر البخاريُّ المُصَنَّفات الَّتي سبقته في تدوين الحديث كما لم يَخبرها أحَدٌ (١)،وانتَشَق ريَّاها، واستجلى مُحيَّاها، وعَرَف مناهِجَها وخصائِصَها، وما يَنبغي أن يكون تَتميمًا لمسيرتِها وغاياتِها في خدمِة السُّنَّة؛ انقدحَ في ذهنِه مَشروعٌ علميٌّ بَديعٌ «لمَّا رأى هذه التَّصانيف بحسبِ الوَضعِ جامعةً بين ما يَدخلُ تحتَ التَّصحيحِ والتَّحسينِ، والكثيرُ منها يشمَلُه التَّضعيفُ، فلا يُقال لغَثِّه سَمينٌ، فحَرَّك هِمَّتَه لجمعِ الحديثِ الصَّحيحِ الَّذي لا يَرتاب فيه أمين» (٢).

فكان أن شَرَع في تصنيفِ جامعٍ صحيح لمُختصرِ ذلك نحو سنة (٢١٧ هـ)، خطَّ فيه أولى كلماتِه وعمرُه لا يجاوز ثلاثًا وعشرين سنةً! حتَّى أتَّمه الله له وهو ابن الأربعين (٣)؛

فاستفذ منه هذا المَشروع الباذخُ ستَّة عشر سنةً، حيث استهَلَّه في


(١) على ما دلَّت عليه سيرته في طَوريه المتقدِّمين من مسيرته العلميَّة: طور التَّأسيس والتَّكوين، وطور الرِّحلة وبدء التَّصنيف، انظر «الإمام البخاري وجامعه الصحيح: نظرات وتحقيقات في السيرة والمنهج» لخلدون الأحدب (ص/٧٦ - ١٠٧)، وهو من أنفع ما كُتب في بابه.
(٢) «هدى الساري» (ص/٦).
(٣) أوَّل من لفت النَّظر إلى هذا التَّحديد الزَّمني فؤاد سزكين في كتابه «تاريخ التراث العربي» (١/ ١/٢٢٥ - ٢٢٦)، استنبطه ممَّا رُوي عن أبي جعفر العُقيلي (ت ٣٢٢ هـ) -كما في «هدي الساري» (ص/٧ و ٤٨٩) - من عرض البخاريِّ الصحيح على أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وابن المديني، «فاستحسنوه، وشهدوا له بالصِّحة، إلَّا في أربعة أحاديث، قال العقيلي: والقول فيها قول البخاريِّ وهي صحيحة». لكن عبد الفتاح أبو غدَّة تشكَّك في صحَّة هذه الحكاية في كتابه «تحقيق اسمي الصَّحيحين واسم جامع الترمذي» (ص/٢٨) للجهالة التي في إسنادها، ولعدم ذكر ابن أبي حاتم الورَّاق لها في «شمائل البخاري»، وإن كنت لا أرى هذا الأخير لوحده لازمًا في إنكارها.

والقصَّة ممكنة غير مستبعدة، على عادة كثيرٍ من الأئمة الماضين في عرض مصنفاتهم على مشايخهم، ومَن قَدِر على إبداعِ مثل «التاريخ الكبير» وهو ابن ثمان عشرة سنة، لن يعجز أن يشرع في تصنيف «الجامع الصحيح» وهو في الثالثة والعشرين.
لولا أنَّ في متنِ الحكاية ما يدفع صحَّة نسبتِها إلى العُقيلي نفسِه، فهو الذي ضعَّف بعض الأحاديث في البخاريِّ! كحديث الأعمى والأبرص والأقرع الَّذي أخرجه في كتابه «الضُّعفاء» (٤/ ٣٦٩ - ٣٧٠) من طريق البخاريِّ، فكيف إذن يُنسب إليه قوله بصحَّة كلِّ ما في «الصحيح» بما فيها الأحاديث الأربعة الَّتي أعلَّها أولئك الأئمَّة؟!

<<  <  ج: ص:  >  >>