للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المَبحث الثَّامن

باعث انكبابِ المُستشرقينَ على قضيَّة نقد المتونِ

«المنهج التَّاريخي الاستردادي» الغَربيُّ مَسلك حديث في توثيقِ التَّواريخ، يقوم على استردادِ أحداثٍ وقعت في الماضي تبعًا لما ترَكَته مِن آثار؛ مِن أساساتِه اعتمادُه على الملاحظةِ غير المباشرة، يسعى فيه المؤرِّخ إلى الوصول إلى نقاطٍ معرفيَّة قديمةٍ لا يصل إليها إلَّا مِن خلال وسائط مِن وثائقَ وشواهد، فهو يجمع تلك الوقائع المتفرِّقة، ويُناسق بينها، في خطٍّ معاكس لمسيرة الزَّمن، ليُنتج بها معرفةً تاريخيَّة، أقرب ما تكون عنده إلى الحقيقة (١).

وبما أنَّ تاريخَ هؤلاءِ فَقيرٌ إلى المُعطياتِ التَّاريخيَّة المُؤسِّسة، منقطعةٌ مُستنداتُه بمَصادرها الأصليَّة، لغفلةِ آبائهم عن توثيقِ أخبارِهم بالتَّسَلسُل الشَّفَوي أو الكِتابيِّ، كانت في أغلبها أخبارًا ومَصادر مُفرَّقة ومُفرغةً في كثيرٍ مِن حلقاتها، أثمنُ ما يظفرونَ به وِجاداتٌ، هي أضعَفُ أدواتِ التَّحمُّل عند المسلمين: فحينئذٍ انحصرَ عملُ المُستشرقِ في دراسةِ متونِ الأخبارِ دون أسانيدها اضطرارًا.

هذا الفراغُ التَّاريخيُّ السَّحيقُ عند أهل المِلَل قبل الإسلام قال عنه محمَّد بن المظَفَّر الحافظ (ت ٤١٥ هـ) (٢) قديمًا: «ليس لأحَدٍ مِن الأُمَم كلِّها قديمِهم


(١) «المنهج النَّقدي عند المُحدِّثين، وعلاقته بالمناهج النَّقدية التاريخية» لعبد الرحمن السُّلمي (ص/٩٣).
(٢) محمد بن المظفر بن علي بن حرب أبو بكر المقرئ الدينوري الحافظ: سكن بغداد، وحدث بها عن أبي إسحاق النيسابوري، وأبي بكر القطيعي، قال الخطيب البغدادي: «كتبنا عنه، وكان شيخا صالحا، فاضلا، صدوقا». انظر «تاريخ بغداد» (٤/ ٤٣٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>