لم يخلُ كلام الله جل جلاله وهو أحكمُ الحاكمين، وكلامُه أحسن الكلامِ وأصدقُه، ولا كلام رسولِه صلى الله عليه وسلم، وهو أفصحُ النَّاس وأنصَحُهم، مِن بعضِ مُتشابهٍ يختلِفُ النَّاس في دركِه، فتنةً تَصْغى إليها أفئدة الَّذين في قلوبهم مَرض، وفُسحةً مِن الاجتهادِ والتَّحرِّي يَنعمُ بأجرها عبادُه المُخلَصون؛ لتتفاوَت درجاتُهم في شرفِ العِلم والمعرفة، ولْيَختلف النَّاس حِيالها بين مُصيبٍ ومخطئٍ، ومُجتهدٍ ومُقلِّدٍ، ومُتأنٍّ ومُتهوِّرٍ، ومَأجورٍ ومَوْزورٍ، فإنَّ هذه المساحةَ الواسعةَ مِن تحرِّي معاني الوحي لم تُوضَع لِمن سَفُلت هِمَّتُهم، من الَّذين يَبتغون كلَّ شيءٍ مُحكَمًا في مَنطوقِه.
وفي تقريرِ شيءٍ مِمَّا لأجلِه كانت البَلوى بالمُشكلاتِ المَعنويَّة في نصوص الكتاب والسُّنة، يقول ابن القصَّار المالكيُّ (ت ٣٩٨ هـ)(١):
«اِعلم أنَّ للعلومِ طُرقًا، منها جَليٌّ وخَفيٌّ، وذلك أن الله -تَبارك وتعالى- لمَّا أرادَ أن يمتحِنَ عبادَه وأنْ يبتليَهم، فرَّق بين طُرقِ العِلم، وجعل منها ظاهِرًا
(١) قاضي بغداد أبو الحسن علي بن أحمد البغدادي: المعروف بابن القصار الأبهري الشيرازي، الإمام، الفقيه، الأصولي، الحافظ، النظار، تفقَّه بأبي بكر الأبهري وغيره، وبه تفقَّه أبو ذر الهروي، والقاضي عبد الوهاب، ومحمد بن عمروس وجماعة؛ له كتاب «عيون الأدلة» في مسائل الخلاف، لا يُعرف للمالكية كتاب في الخلاف أكبر منه، انظر «شجرة النور الزكية» (١/ ١٣٨).