للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جَليًّا، وباطنًا خفيًّا، ليرفع الَّذين أوتوا العلم، كما قال عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: ١١]» (١).

وحيث أنَّ النَّاسَ مُتفاوتون في علومِهم وإدراكاتهم وغاياتِهم، مُتباينون في امتِثالِهم لنصوصِ الوَحْيَين، فكان مِنهم الرَّاسخون في العِلم، الذَّابُّون عن حياض الشَّريعة، ومِنهم أهلُ زَيغٍ صبغوا دينَهم بلونِ أهوائِهم؛ فإنَّه مِن خلالِ التَّبصُّرِ بهذا الافتراقِ، نُدرِك الحكمةَ الكبرى مِن وجودِ هذه المُشكلاتِ في النُّصوصِ الشَّرعيةِ أنَّها: تَمحيصُ ما في القلوبِ مِن اليقينِ والتَّسليمِ لله ورسولِه، وابتلاءُ العقولِ لتستفرِغَ الوُسعَ في التَّوَصُّل إلى مُراداتِ الله تعالى.

وفي تقريرِ هذا المَقصد الجليل لهذا النَّوع من النُّصوص، يقول أبو إسحاق الشَّاطبي: «مَسألة المُتشابهاتِ لا يَصِحُّ أن يُدَّعى فيها أنَّها مَوضوعةٌ في الشَّريعة، قصدَ الاختلافِ شَرعًا .. بل وَضعها للابتلاءِ؛ فيعملُ الرَّاسخون على وفقِ ما أخبرَ الله تعالى عنهم، ويَقع الزَّائغون في اتِّباعِ أهوائِهم» (٢).

ويُعبِّر المُعلِّمي أيضًا عن حكمة ذلك، فيقول: «في بقاءِ المَنسوخ بعيدًا عن ناسخِه، والإتيان بالمُجمل بنَوْعيه: ابتلاءٌ مِن الله تعالى لعبادِه، فيكون عليهم مَشقَّةً وعناءً في استنباطِ الأحكام، لاحتياجِ ذلك إلى الإحاطةِ بنصوصِ الكتابِ والسُّنةِ واستحضارِها، وفي ذكرِ ما لا سبيلَ للعبادِ إلى معرفةِ كُنهِه وكيفيَّته، مع ما يَتَعلَّق بذلك مِن المعاني الظَّاهرة، ابتلاءً لهم، ليمتاز الزَّائغُ عن الرَّاسخ» (٣).

ولُبُّ الكَلِم في مثل هذا المَقام أن يُقال:

إنَّ عُبوديةَ الإنسان الحقَّةَ لربِّه تبارك وتعالى، إنَّما تَتَجلَّى في أنصعِ صُوَرِها: عند مُجاهدةِ الإنسانِ لهَواه وشيطانِه؛ هذا الصِّراعُ داخل النَّفسِ البَشريَّةِ، بما فيها


(١) «مقدمة في أصول الفقه» لابن القصار (ص/٥).
(٢) «الموافقات» للشَّاطبي (٦٩ - ٧١).
(٣) «القائد إلى تصحيح العقائد» للمعلمي (ص/١٨٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>