مِن لحظاتِ نصرٍ وهزيمةٍ، وإقبالٍ وفرار: هو المُؤشِّر الصَّادق لمَدى خضوعِ الإنسان لربِّه، وتَذلُّله على عَتَباتِ عُبوديَّتِه؛ «فإنَّما حُفَّت الجنَّة بالمَكاره»!
فربُّنا هذا العليم سبحانه، لو أرادَ لجَعَلَ دينَه مُحكمًا كُلَّه، بما لا يُحوِجُنا معه إلى مشقَّة نَظَرٍ أو عناء تَبصُّر؛ لولا أنَّه قَضى بحكمته في الأزل: أنَّ مُعاناةَ عبادِه لوَحْيِه وأنوارِ رسالتِه، واشتِجارَ المَحابِرِ على الأوراقِ في بيانِ مُرادِه، ومُجاهدةَ أنفسِهم لتَقبُّلِ قَضائه في أحكامِه وإن خالَف مُشتَهياتِها، وحِرصَهم على استخراجِ النُّورِ الأوَّلِ مِن كلِماتِه لتَمثُّلِه؛ هذه المُكابَدات كلُّها: هي في ذاتها من أعظمِ ضروب العبوديَّة، وأجلى مَظاهرها على العَبد.
ومع استصحاب هذه المعاني الجليلة كلِّها للنَّاظر في أحرُف الوَحي، يحذرُ السَّالك في هذا الطَّريقِ من المُجاهَدات أنْ يغفلَ عن الاهتداءِ بتلك المَعالِم السَّالِف سَردُها، وما سَبَقها مِن قواعد منهجيَّة، كي لا يُسيء التَّعامل مع الإشكالات العارضة له، فتَتكاثر عليه، حتَّى تصير أشبهَ بمِطْرَقةٍ ما تلبثُ أن تُهشِّمَ المناعةَ في قَلبِه! يكون بها قابِلًا لأيِّ انحرافٍ وانتكاسٍ فكريٍّ؛ لا بسبب قوَّةٍ في ذات الشُّبهات الواردة عليه -ولو تَراءى للنَّاسِ أنَّها مَن أهلكته- بل لهشاشةِ حصانتِه القَبْليَّة، وضَعْفِ مَناعتِه الفكريَّة، جرَّاءَ تخبُّطِه المَنهجيِّ في التَّعامل معها أوَّلَ مرَّة.
ولو كان ثَمَّ تعَقُّلٌ في مُعاملةِ الأسئلةِ العَارضةِ له على نصوصِ الوَحي، فتَعاطى مع السُّؤالِ بطريقة وَاعية مَنطِقيَّة، لعادَت النَّفسُ لوَضْعِها الطَّبيعي مُطمئنَّةً ولو بعد حينٍ.
نعم، قد تَستمِرُّ الإشكاليَّةُ في ذهنه طويلًا مع تَأنِّيه وتَعَقُّله، لكنْ بعد أن يكون مُتأثِّرًا بالسُّؤالِ حقيقةً، لا بالحالةِ النَّفسيَّةِ الَّتي هَشَّمتها المِطرقة! (١)
(١) مقال بعنوان: «سيَّد الضمانات الفكرية» لـ د. فهد العجلان، «مجلة البيان» (العدد ٣١٣، رمضان ١٤٣٤ هـ) بتصرف.