للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المَطلب الثَّاني

تعليلُ المحدِّثين للخَبرِ إذا عارَضه ما هو أقوى

قد علِمنا قبلُ أنَّ مَدار عَملِ النُّقادِ قائم على بَيانِ الاختلافِ بين رواياتِ الحديثِ الواحدِ، فيُقارِنون مُتونَ الطُّرقِ بعضها ببعضٍ؛ فبدهيٌّ أنَّهم بهذا المنطقِ لنْ يحكموا بصحَّة الحديثِ إذا خالَفَ حديثًا آخرَ مخالفةً حقيقيَّةً رواتُه أرجح، ولا أن يقولوا: كلُّ ذلك صَحيح!

بهذا الاعتبار نرى المُحدِّثين كثيرًا ما أعلُّوا حديثَ الثِّقةِ إذا رَوَى ما يُخالف رأيَه (١)،

أو خِلافَ الثَّابتِ المَعروفَ مِن السُّنَنِ المَستفيضة؛ كما تراه - مثلًا- في قولِ أحمد (ت ٢٤١ هـ) في حديثِ أسماءَ بنتِ عُمَيس: «تَسَلَّبي ثلاثًا، ثمَّ افعلِي ما


(١) ضعَّف أحمد بن حنبل وأكثر الحُفَّاظ أحاديث كثيرة بمثل هذا الاعتبار، وإن كان لا يخلو هذا المسلك من نظر في بعض الأحيان، إذ قد يكون الراوي حين جاء عنه ما يخالف روايته فعَل ذلك لمعارض راجح بلغه، فترك موجِبَ روايته وعمل أو أفتى بالراجح، أو يكون لناسخٍ بلغه؛ وقد يكون نسي ما روى كما قال قتادة في فُتيا الحسن بخلاف روايته في قتل الحرِّ بالعبد.

على أنَّ الصَّحيح أن هذه الاعتبارات لا تُضعِّف اعتماد هذا المسلك، لأنَّ النُّقاد لمَّا اعتمدوه في نقد المتونِ لم يكن اعتمادهم عليه اعتمادًا كليًّا، بل نقدهم لا يخلو معه من نظر في الأسانيد، ولا يخلو إسناد لمتن منتقد بهذه العلَّة -في الغالبِ- من وجود علَّة إسناديَّة توجب ضعفه، من إرسال، أو سماع من مختلط بعد الاختلاط، أو تفرُّد ممن لا يحتمل تفرُّده، لكن الشَّاهد عندنا من إيراد هذا المثال اعتناء المحدِّثين بالنَّظر في المتون وما يعارضها أثناء العمليَّة النقديَّة.
وانظر «الفقيه والمتفقه» (١/ ٣٧٠)، و «شرح علل الترمذي» (١/ ١٥٨)، و «منهج الإمام أحمد في إعلال الأحاديث» لبشير عمر (٢/ ٩٣٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>