قد أَوْلى الشَّيخان اهتمامًا بليغًا بحال المتونِ في نظرِهما النَّقدي للأحاديث، فلم يكونوا يَتَردَّدون أبدًا في إعلالِ حديثٍ تَبَيَّن لهم خَلَلُ مَتْنِه، أو مُعارضَتِه ما هو أثبتُ منه دلالةً ونقلًا؛ بل كثيرًا ما أدخل البخاريُّ الرَّجلَ غير المُكثِر في الضُّعفاء بحَديثٍ خالَفَ متنُه فيه المعروفَ مِن التَّاريخ أو السُّنةَ الثَّابتةَ؛ فمَن لم يكن له مِن المَروِيَّاتِ ما يَتَبيَّن به أمرُه إلَاّ ما يُستَنْكَر، فهو المستحِقُّ لاسمِ الضَّعف عنده، ولو لم يعلم أحدًا قبله جرحَّه تجريحًا صريحًا (١).
فقد قرَّرنا سابقًا أنَّ عِلْمَ العِلَل أحد الأصول الَّتي ينبني عليها عِلْم الرِّجال، وبه توصَّل الشَّيخانِ وغيرهما من النُقَّاد إلى فَرْزِ مَراتِبِ الرُّواة، عبر سَبْرِ مَرويَّاتِهم والتَّحقُّقِ مِن سلامتها مِن القَوادح؛ وهذا ما يُفسِّر توافرَ أمثلة نقدِ البخاريِّ للمتون في كِتابيه في الرِّجال:«التَّاريخ الكبير»، و «التَّاريخ الأوسط».
لقد كان بَيانُ هذا التَّرابط بين تعليل المتون وعلم الرِّجال مِن أجَلِّ مَقاصد مسلم في تأليفِه لكتاب «التَّمييز»، وقد أعرب عن هذه العَلاقة التَّلازميَّة فيه بقوله: «أهلُ الحديث هم الَّذين يَعرفونهم ويُميِّزونهم، حتَّى يُنزلوهم مَنازلهَم في التَّعديل
(١) انظر رسالة ماجستير بعنوان «الأحاديث الَّتي قال فيها البخاري: لا يُتابع عليه، في التاريخ الكبير» لعبد الرحمن الشايع (ص/٣٧١).