للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والتَّجريح، وإنَّما اقتصصنا هذا الكلام لكي نُثبتَه مَن جَهِل مَذهبَ أهلِ الحديث، ممَّن يُريد التَّعلُّم والتَّنبُّه على تثبيتِ الرِّجال وتَضعيفِهم، فيعرفَ ما الشَّواهد عندهم والدَّلائل الَّتي بها ثبَّتوا النَّاقل للخَبر مِن نقلِه، أو سقطوا مَن أسقطوا منهم» (١).

إنَّ الملاحَظ على كثيرٍ مِن أحكامِ الشَّيخينِ على الرُّواة، أنَّهما يجمعان في كثيرٍ من نقدِهما للمرويِّ بين النَّظر المَتنيِّ والإسناديِّ، وبخاصَّة البخاري؛ فإنَّ دلَّ هذا على شيءٍ، فعلى تحرِّيهما الدِّقة في هذا الباب، واعتقادهما لاقتضاء علَّة المتن لعلَّةٍ في السَّند ظاهرة كانت أو خفيَّة؛ فإن لم يظهر منشأ خلل المتن في السَّند، فقد يُعلَّان الحديَث ولو كان رُواته ثقاتًا -كما سيأتي بيان مثاله- وهذا الغاية في الإعلاء من قيمة النَّظر المَتنيِّ عندهما أثناء عمليَّة النَّقد.

ولإن كان الشَّيخان قد أظهرا مِن مُمارسة النَّقدِ أمثلةً كثيرةً تُنبِي عن تَبصُّرهما بالمتونِ حال تحقُّقهم من الأخبار، فإنَّ عنايةَ البخاريِّ بالمتونِ فائقةٌ في ذلك عنايةَ مسلم بكثيرٍ، لتفاوتِ ما بينهما ذكاءً وفهمًا وحفظًا؛ فلِلبخاريِّ في باب التَّعليل فَضلٌ على تلميذِه، و «لولاه ما ذَهب مسلمٌ ولا جاء» (٢)! وهذا ما سيتَبيَّن لك في ما انتخبتُه مِن نقداتِهما الكثيرةِ؛ مع تنبُّهي إلى اختلافِ مَقاصد التَّصنيف لديهما.

فهذا أوانُ الشُّروعِ في سَوقِ شواهد الإمتاع والإبداع في نقد الشَّيخين للمتون، على أنَّ في المِثال أو مِثالين مِن ذلك كفايةً للمُنصِفِ لنقضِ قولِ مَن فاهَ من المعاصرين بإغفالِهما تمحيصِ المتون؛ فإنَّ الكُليَّة السَّالبةَ تَنتَقِضُ بجزئيَّةٍ مُوجَبةٍ (٣)؛ ولكن غرضي حشدُ الدَّلائل في مثل هذا المَقام واستكثارها بما يَثلَجُ صدرَ القارئ يقينًا يُحجِم به عن تلمُّسِ غير ما في هذا المَبحثِ حُجَّةً على الخصمِ.


(١) «التَّمييز» (ص/١٩٦).
(٢) قاله الدَّارقطني، كما في «تاريخ بغداد» (١٥/ ١٢١).
(٣) انظر «شرح لقطة العجلان» لزكريا الأنصاري (ص/١١٩)، و «ضوابط المعرفة» للمَيداني (ص/١٥١).

<<  <  ج: ص:  >  >>