مأزِق بعض المُتكلِّمين في تصنيف الآحاد من حيث مرتبةُ التَّصديق
ما مرَّ عليك آنفًا من دعاوى حكميَّة على أحاديث «الصَّحيحين»، ليست في حقيقتها إلَّا نتاج سوءِ استعمال لتأصيلاتِ المتكلِّمين في باب الأخبارِ الشَّرعيَّة وحُجَّيتها، وإقحامُ مثل مصطلح «الظنِّ» ومَراتبه في علمِ الحديثِ أو الأصولِ، والحكمُ به على أحاديث الآحادِ، كثُر استعماله عند المُتكلِّمين، ثمَّ شاعَ بين أهل الفقهِ والأصول.
وقد تمكَّن مَن استهوته نَزغات التَّمعقُلِ من بعض دُعاة تجديدِ التُّراثِ، أن يوجِدَ مداخِل بتقريرات المتكلِّمين في هذا الباب من ترتيب الآحاد من حيث التَّصديق، فتسلَّلوا من خِلالِ ثغراتها لِواذًا، ليقتلعوا ما استطاعوا مِن غِراسِ السُّنة؛ حتَّى بلغتِ القِحة ببعضِهم أن يُعلنَ إنكارَ الآحادِ جملةً، مُعتَلًّا بنفسِ ما أصَلَّه هؤلاء المتكلِّمين من ظنِّيتِها، ما دُمنا قد أُمرنا في القرآن بالعلمِ والعمل به، لا بالظَّن والعملِ بما احتملَ الكذب في نفسِه، فيشملُ الفروع أيضًا (١).
(١) اتِّباع الظَّن المرجوحِ الخالي عن العلم، هو الذي ورد في القرآن الكريم ذمه، في قوله تعالى مثلًا: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَاّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}، أمَّا اتَّباع الظَّن الرَّاجح المستند إلى علم: فإنه لا يدخل في الظن المذموم، لأنَّه اتِّباع للعلم في حقيقه؛ فإن ترجيح ظن على ظن لا بدُ له من دليل، فيكون ترجيحه مستندًا إلى علم ودليل، فاتباعه لهذا الظن الراجح اتباعٌ لما عُلم رجحانه، فهو اتباع لأحسن الدليلين، فيدخل في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}.