للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد استشعرَ المُتكلِّمة حجمَ المأزقِ الَّذي حوصروا فيه في هذا الباب مِن مَراتب الأدلَّة، فانبعثَ أفذاذُ أصوليِّيهم إلى مُحاولةِ سَدِّ هذه الثُّغور، فلم يجدوا أمتنَ مِن استعمالِ دليل «قطعيَّة العَمل» للردِّ على مُنكري حجيَّة الآحاد بإطلاق، بالتَّسليم بأنَّها ظنيَّة المَفادِ، لكنْ مع القولِ بقطعيَّةِ وجوبِ الأخذِ بها، استنادًا إلى دليلين اثنين، يفصِّل فيهما الجُويني القول فيقول:

«أحدهما: يستند إلى أمرٍ مُتواترٍ لا يَتمارى فيه إلَّا جاحدٌ، ولا يَدرؤه إلَّا معاند، وذلك أنَّا نعلم باضطرارٍ مِن عقولنا أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم كان يُرسل الرُّسل، ويُحمِّلهم تبليغ الأحكام، وتفاصيل الحلالِ والحرامِ، وربَّما كان يُصحبهم الكُتُب.

وكان نقلُهم أوامرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الآحاد، ولم تكُن العصمة لازمةً لهم، فكان خبرُهم في مَظِنَّة الظُّنون، وجرى هذا مَقطوعًا به مُتواترًا لا اندفاع له، إلَّا بدفع التَّواتر، ولا يدفع المُتواتر إلَّا مباهتٌ، فهذا أحدُ المَسْلَكين.

والمسلك الثَّاني: مُستَنِدٌ إلى إجماع الصَّحابة رضي الله عنهم، وإجماعهم على العمل بأخبار الآحاد منقول مُتواترًا .. فهذا هو المُعتمد في إثبات العلم بخبر الواحد» (١).

بهذا تمكَّن جمهور المتكلِّمينَ مِن الانفصالِ عن الحجَّة الَّتي أوردها مُنكرو الآحاد لظنِّيَتِه (٢).

غير أنَّ الاقتصارَ على استعمالِ هذا الدَّليلِ «قطعيَّة العملِ» مع واقعيَّته، يحصُر الاحتجاجَ به على خبر الواحدِ في الفروع العَمليَّة، دون الأصولِ العقديَّة والعلميَّة! وهو ما سَلَّم به كثيرٌ من متأخِّري المتكلِّمين (٣)، وليس يَسعُ من فرَّقَ بين


(١) «البرهان في أصول الفقه» (١/ ٢٢٨).
(٢) انظر «المعتمد» لأبي الحسين البصري (٢/ ٩٨)، و «المستصفى» للغزالي (ص/١١٦)، و «الإحكام» للآمدي (٢/ ٥٢).
(٣) انظر «إشكالية القطع عند الأصوليين» لأيمن صالح، بحث منشور بمجلة «المسلم المعاصر» (العدد:١١٧، ص/٣٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>