للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمغيرة، لجوازِ أنْ يكون الخَبَران صَحيحين معًا، وكلُّ واحدٍ منهما غيرُ الآخر» (١).

وبتأمُّلنا في دعاوي المُعاصرين في إنكارِ هذا الخبرِ، نلحظ أنَّها ترتكز على أَمرين، لم يُصِب المخالفون في تصحيحِ أصلِه الَّذي ابتُني عليه إنكارُه (٢):

الأوَّل: توهُّمهم أَنَّ ظاهرَ الحديثِ مُعاقبةُ الميِّت بلا وِزرٍ اقترفه، ولا ذنبٍ جناه؛ هذا قادهم إلى القول بـ:

الثَّاني: أنَّ هذا الظَّاهر مَدْفوع بيَقينِ العقلِ وضَرورة الشَّرع.

والحقيقة: أنَّ ظاهر الحديث لا ينافيه العقل؛ فضلًا عن الدَّلائل النَّقليَّة، وما ظنُّوه منافيًا لهذا الظَّاهر، ليس هو مَدلوله ولا ظاهره، بيان ذلك:

أنَّ المعارِضين قَصَروا معنى (العذاب) على (العقاب)، والصَّواب: أَنَّ العذاب أَعمُّ من العِقاب؛ فكلُّ عِقابٍ عذاب بلا عكس.

والَّذي يُبرهن على هذه الدَّعوى الدَّلائل التَّالية:

تسمية الله تعالى على لسان أيوب عليه السلام ما ابْتَلى به عبدَه عذابًا، فقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: ٤١]، والعذاب هنا بمعنى: الضُرِّ في بدنِه وأهلِه الَّذي ابتلاه الله به (٣)، لا على سبيل العقوبة له عليه السلام؛ وإنَّما ابتلاءً له.

ومِن البراهين الدَّالة على بطلان قصرِ مفهومِ العذابِ على العقابِ:

ما صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: «السَّفرُ قِطعةٌ من العَذَابِ، يمنع أَحدكم طعامَه وشرابه ونومه، فإذا قضى أحدكم نَهْمَتَهُ من سَفَرِه، فَلْيعجِّل بالرجوع إلى أهله» (٤)، فَسَمَّى النَّبي صلى الله عليه وسلم السَّفر قطعةً مِن العذاب، ومعلوم أنَّه إنَّما أراد الألم الحَاصِلَ للمسافر، وليس هو على جهة العِقَاب.


(١) «أعلام الحديث» (١/ ٦٨٤).
(٢) «دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/٦٤ - ٦٧).
(٣) انظر «جامع البيان» لابن جرير (٢٠/ ١٠٦ - ١٠٧).
(٤) رواه البخاري في (ك: العمرة، باب: السفر قطعة من العذاب، رقم:١٨٠٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>