للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإنَّا إذ نرفضُ تلك الخصومةَ المُدَّعاة بين صريح العقل وصِحاح النَّقل، لا نُنكر في المُقابل وجودَ مَبادئ فِطريَّة مَركوزةٍ في العقل الإِنسانيِّ، بل إنَّ وجودَ هذه المَبادئ والإِقرار بها مِمَّا يُوطِّد وَهْنَ هذه الدَّعوى؛ ذلك لأنَّ هذه المَبادئ مع كونِها مِن مُكوِّنات العقلِ البشريِّ، إلَاّ أنَّها غير كافيةٍ في تحصيلِ الحقائق، إمَّا مُطلقًا، وإمَّا على وجهِ التَّفصيل، فهي مُفْتَقِرة إلى نُور الوحي (١).

وهذا ما سيَتَبيَّن بعدُ بتحديدِ معنى العقلِ، فإنَّ الاختلاف في مَفهومِه مِن أصولِ النِّزاع في ما نحن بصدده، فلقد داخل هذا اللَّفظَ مادَّةٌ مِن الاشتباهِ والإجمالِ (٢)، وعندي أنَّه مِن أكثرِ المُصطَلَحاتِ المَظلومة من أهل هذا العصر، فلَكَم حُمِّل ما لا يحتمِلُ، أُلبِس أوسعَ مِن مَقاسِه!

إنَّ العقل «جِنسٌ تحته أنواعٌ، منها ما هو حقٌّ، ومنها ما هو باطلٌ باتِّفاق العُقلاء، فإنَّ الناس مُتَّفقون على أنَّ كثيرًا مِن النَّاس يُدخِلون في مُسمَّى هذا الاسم ما هو حقٌّ وباطلٌ» (٣)، ولأجل ترسِيَتِه مواضِعَه المناسبة نقول:

الفرع الأوَّل: مَفهوم العقلِ الَّذي تمتنِعُ مُعارَضتُه للدَّلائل النَّقليَّة.

تدور مادَّة العقل في اللِّسان: على المنعِ، والحبس، والإمساكِ، ومِنه: عَقَلَ الدَّواءُ بطنَه، يعقِلُه عقلًا: أمسَكَه، ويُسمَّى عقل الإنسان عقلًا، لأَنَّه يمنع صاحبَه مِن التَّورُّط في المَهَالِك (٤).

وأَمَّا مفهومُه في المُواضَعةِ والاصطلاحِ: فيدور على مَعَانٍ كثيرةٍ، قد قيل في عِبارتِه ألفُ قَولٍ (٥)! والَّذي يُرادُ من ذلك في هذا المَقام، ويَمتنعُ مُعارضته للدَّلائلِ النَّقليَّةِ: هو العقلُ الفِطريُّ بمَبادئِه الأوليَّة التي فُطِرَ عليها العقل


(١) «دفع دعوى المُعارض العقليِّ» (ص/٣٩).
(٢) كما قال ابن تيميَّة في «مجموع الفتاوى» (١٦/ ٤٦٩ - ٤٧٠).
(٣) «درء التعارض» (١/ ١٩١).
(٤) انظر: «القاموس المحيط» للفيروز آبادي (١٣٣٦)
(٥) «البحر المحيط» للزركشي (١/ ١١٥)

<<  <  ج: ص:  >  >>