ومع ما تخبَّط به القوم في نقداتهم للتراث الشرعي، فلقد مَضَت تلك الأزمانُ الَّتي كان فيها كلامُهم في السُّنةِ سَبَهْلَلًا! يَرمون الأخبارَ على اختلافِ مَصادِرها ودَرَجاتِها كيفما اتَّفَق؛ فإنَّهم صاروا إلى قناعةٍ متجذِّرةٍ بأنَّ أصلَ السُّنةِ ورُوحَها، وأصَحَّ ما جُمِع مِن حديثِها مرقومٌ بين جنبات «الصَّحيحين»، بما تناهى إلى سمعهم من كونهما الدَّرجة الثَّانية صِحةً وتشريعًا بعد كتابِ الله تعالى، وأنَّ عمومَ الأمَّة قد تَلقَّتهما بكمالِ الثِّقة، واعتبَرتهما مَدار العقائد لديها، فلا يَتمُّ تشريعٌ لفَقيهٍ دونهما، لعُلوِّ شروطِ الصِّحةِ في انتقاءِ أخبارهما، وللثِّقة العامَّةِ الحاصِلة لمُصنِّفيهما.
هذان المَغبوطانِ اللَّذان بَذلا حياتَهما لخدمةِ سُنَّة نبيِّهما عليه السلام، واللَّذان تمنَّى ملوك الأرضِ وأشارف النَّاس التَّجمُّلَ بصِفاتهما، والتَّحلِّي بسِماتهما، وثنيَ الرُّكَب في مَجالِسِهما.
فأمَّا أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاريُّ (ت ٢٥٦ هـ)(١):
فالشَّمس تَلَأْلؤ في سَماءِ المَجد والشَّرف، العبقريُّ الآخذُ من كلِّ فضلٍ بطرفٍ، قد وَهَبه الله تعالى بصيرةً نافذةً تكاد تخترقُ حُجبَ الغيبِ، ونفسًا سَماويَّةً مَحَّصَتها الفضيلةُ، فلم تعلَق بها الرَّذائل، ولا طارَت حولَها المَفاسد والأطماع، وذِكرًا بعيدًا تُردِّدُه الأقطار، وتُغضي مِن مَهابتِه الأبصار، وجلالًا تُطأطئ له الهامات، وحُبًّا مُبرِحًا تنعقدُ عليه قلوب المَلايين مِن المسلمين في مَشارقِ الأرضِ ومَغارِبها.
توجَّه البخاريُّ إلى طلب العلومِ في بُكورِه، فبَدَت عليه علائم الذَّكاء والبراعةِ في حذق ما يتلقَّاه؛ حتَّى إذا أكملَ حفظَ القرآن تَوجَّه إلى السُّنة ومَرويَّاتها، فاستَوْفى حفظَ حديثِ شُيوخِه البُخاريِّين، ونَظَر في الرَّأي، وقَرأ كُتُبَ عبد الله بن المُبارك (ت ١١٨ هـ)؛ كلُّ هذا ولم يُجاوز عُمره المُبارك
(١) انظر ترجمته في «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (٢/ ٣٣٢)، و «تاريخ دمشق» لابن عساكر (٥٢/ ٥٠)، و «أعلام النبلاء» للذهبي (١٢/ ٣٩١).