للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقولُنا باستحبابِ تكرار الدَّعوة عمومًا مشروطٌ بأنْ لا يَتَضمَّن الإبلاغ ضَرَرًا على المسلمين: كأن يُعلَم بأنَّهم إذا جُدِّدت لهم الدَّعوةِ تَنبَّهوا، فاستعدُّوا، أو احتالوا، أو تحصَّنوا، أو استدعوا مَدَدًا، ونحو ذلك ممَّا لا يَقوى به المسلمون عليهم (١).

ومِن الأمورِ المَطلوبةِ في الحروبِ سُرعة الحَسم، تقليلًا للخَسائر على اختلافِها، فلذلك اُستحِبَّ في مثلِ هذه الصُّوَر المُفترضةِ -الآنِف ذكرُها- عدمُ تجديدِ الدَّعوة؛ وغَلَبة الظنِّ في هذا تظهر مِن حالِهم، وهو أمرٌ مَوكولٌ إلى اجتهادِ الإمام، فإذا رأى في تركِ الدَّعوةِ صَلاحًا فَعَل، ويلزمُ الجُندَ طاعتُه فيما يَراه (٢).

قلت: فحديث إغارةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم على بني المصطلقِ يَتَنزَّلُ على هذا التَّفصيلِ بالتَّمام! وبيانُ ذلك: ظاهرٌ أمثلتُها من سِيرته صلى الله عليه وسلم مع مَن لم يُسلِم مِن قبائل العَربِ:

فإنَّه -بأبي هو وأمِّي- لم يُقدِم على الإغارةِ على أيٍّ مِن أولئكَ دون سابقِ دَعوةٍ خاصَّة أو إنذارٍ؛ فهذا الأصل عنده، إلَّا أن يجتمِعَ في القَومِ منهم خِصلتان:

أوَّلهُما: أن يكونوا ممَّن سَبَقت إليهم الدَّعوة، فلا يجب تكرارها.

وثانيهما: أن يكونوا مِن الحَرْبيِّين المُعادِين للإسلامِ وأهلِه، فتكون الإغارة عليهم تَنكيلًا بهم، ودفعًا لأيِّ مَفسدةٍ محتملةٍ مِن إنذارهم.


(١) انظر «المبسوط» للسرخسي (١٠/ ٣١).
(٢) لذا كان الأَوْلى في نظري عدم قصرِ حكم تكرار الدَّعوة على الاستحباب فقط، بل تُسحب المسألة على مختلفِ الأحكامِ الفقهيَّة، لاختلافِ مناطاتِ الحكم باختلافِ أحوالِ جيشِ المسلمين وعدوِّهم.
ثمَّ وقفت -بحمد الله- على كلامٍ للقرافيِّ يوافق في جملتِه ما ارتأيته، حيث قال في «الذخيرة» (٣/ ٤٠٣): «لا خلاف في وجوبِ الدَّعوة قبل القتال لمِن لم يبلغه أمرُ الإسلام، ومَن بَلغه فأربعةُ أقسام:
واجبة: مِن الجيشِ العظيم إذا غَلب على الظنِّ الإجابةُ على الجِزية، لأنَّهم قد لا يعلمون قبولَ ذلك منهم.
ومستحب: إذا كانوا عالمِين ولا يغلُب على الظَّن إجابتهم.
ومباحةٌ: إذا لم يُرجَ قبولهم.
وممنوعة: إن خُشيَ (أخْذُهم) لحَذَرِهِم بسَبِبِها» ا. هـ

<<  <  ج: ص:  >  >>