للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإن قيل: فما معنى قوله: «وأغضبُ كما يغضب البَشر»، وهذا يشير إلى أنَّ تلك الدَّعوة وَقَعت بحُكمِ سَوْرة الغَضب، لا على أنَّها مِن مُقتضى الشَّرع؟ ..

قيل: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم أرادَ أنَّ دعوتَه عليه، أو سَبَّه، أو جلده، كان ممَّا خُيِّر بين فعلِه له عقوبةً للجاني، أو تركِه والزَّجْرِ له بما سِوى ذلك، فيكون الغضبُ لله سبحانه بَعَثه على لَعْنَتِه أو جلِده، ولا يكون ذلك خارجًا عن شَرْعِه، ولا مُوقِعًا له فيما لا يجوز.

ويحتمل أن يكون خَرَج هذا مَخرجَ الإشفاقِ منه صلى الله عليه وسلم، وتعليمِ أمَّتِه الخوفَ مِن تعدِّي حدودِ الله تعالى، فكأنَّه صلى الله عليه وسلم يُظهِر الإشفاقَ مِن أن يكون الغَضبُ يحمِلُه على زيادةٍ يسيرةٍ في عقوبةِ الجاني، لولا الغَضبُ ما زادَها ولا أوقعَها، .. أو إشفاقًا منه صلى الله عليه وسلم وإن لم يَقَع فيه» (١).

وأبدى القاضي عياض احتمالًا آخرَ قال فيه: « .. هو صلى الله عليه وسلم لا يقولُ ولا يفعلُ في حالِ غضَبِه ورضاه إلَّا صِدْقًا وحقًّا، لكن غضبُه لله تعالى قد يحمِله على الشِّدة في أمرِه، وتعجيلِ عقوبةِ مُخالفِه، وتركِ ما قد أُبىح له مِن الإغضاءِ عنه والصَّفح، فقد جاء في الحديث: أنَّه ما انتقمَ لنفسِه قطُّ، إلَّا أن يُنتهَك حُرمة الله» (٢).

فعلى هذا؛ يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم «ليس لها بأهلٍ»: أي مِن جِهة تَعيُّن التَّعجيل.

وأمَّا دعوى (السُّبحاني) أنَّ ما وَرد في الحديث إنْ صَدر منه صلى الله عليه وسلم على مُستحَقٍّ، فلا حاجة معه إلى اعتذار .. إلخ:

فهذه سَوءةٌ من سَوءاتِ فهمه لكلام العرب، فليس في الحديث أيُّ اعتذار مِن الأساسِ! إنَّما فيه زيادة احتياطٍ منه صلى الله عليه وسلم ورَعًا ووَجلًا أن يلقى الله تعالى بأدنى شُبهةِ حَقٍّ لأحدٍ في ذِمَّتِه.


(١) «المعلم بفوائد مسلم» (٣/ ٢٩٦).
(٢) «إكمال المعلم» (٨/ ٧٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>