للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القسم الثَّاني: ما علِمنا كذِبَه بما عندنا ممَّا يُخالفه:

كقِصَصهِم الَّتي تطعن في عصمةِ الأنبياء، فمثلُ هذا الكذب لا يجوز روايتُه إلَّا لبيانِ بُطلانه، كما نَصَّ عليه مالك والشَّافعي (١).

يدخُل في هذا النَّهي ما يحيلُه العقلُ مِن مَرويَّاتِهم، أو يغلب على الظَّن بُطلانه، وفيها يقول ابن كثير: «إنَّما أباحَ الشَّارع الرِّواية عنهم فيما قد يُجوِّزه العقل، فأمَّا فيما تُحيله العقول، ويُحكم فيه بالبطلان، ويَغلب على الظُّنون كذبُه: فليس مِن هذا القَبيل» (٢).

القسم الثَّالث: ما هو مَسكوت عنه، لا مِن القسم الأوَّل ولا الثَّاني:

فهذا لا نُؤمن به ولا نُكذِّبه (٣).

وفي هذا القسم يقول ابن تيميَّة: «غالبُ هذا ممَّا لا فائدة فيه تعود إلى أمرٍ دينيٍّ، ولهذا يختلف علماء أهلِ الكتاب في مثلِ هذا كثيرًا، ويأتي عن المُفسِّرين خلافٌ بسبب ذلك، كما يذكرون في مثلِ هذا أسماءَ أصحاب الكهف، ولونَ كلبهم، وعِدَّتهم، وعصا موسى عليه السلام مِن أيِّ الشَّجرِ كانت، وأسماء الطُّيور الَّتي أحياها الله لإبراهيم عليه السلام، وتعيين البعض الَّذي ضُرب به القتيل من البقرة، ونوع الشَّجرة التي كلَّم الله منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله في القرآن، ممَّا لا فائدةَ في تعييِنه تعود على المُكلَّفين في دنياهم ولا دينِهم، ولكنَّ نقلَ الخلاف عنهم في ذلك جائز» (٤).

وعليه كان الضَّابطُ في قَبولِ هذا النَّوعِ مِن المرويَّاتِ هو أخبار شرعِنا، فما وافَقها قبِلناه، وما خالَفها رددناه، وما لم يرد فيه إقرارٌ ولا نفيٌ، فجائز حكايته مِن بابِ الاستشهادِ والاستئناسِ، لا الاعتقاد (٥).


(١) انظر «القبس» لابن العربي (٣/ ١١٩٨)، و «فتح الباري» لابن حجر (٦/ ٤٩٨ - ٤٩٩).
(٢) «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (١/ ٣٢).
(٣) «مقدمة في أصول التفسير» لابن تيمية (ص/٤٢)، وعنه أخذ ابن كثير هذا التقسيم في مقدمة «تفسير القرآن العظيم» (١/ ٩).
(٤) «مقدمة في أصول التفسير» لابن تيمية (ص/٤٣).
(٥) «مقدمة في أصول التفسير» (ص/٤٢).

وقد أبدع (د. خليل إلياس) في كتابه «كعب الأحبار وأثره في التفسير» (ص/١٤٢ - ١٥٢) تفصيلًا آخر في حكم رواية الإسرائيليَّات، توصَّل فيه إلى عدم حصره في المنع والإباحة فقط، بل هي دائرة مع الأحكام الفقهيَّة الخمسة، فالوجوب عند مجادلتهم في معتقدهم بما يقيم عليهم الحجة من مروياتهم، والندب إذا كانت موافقة للشرع، والإباحة إذا لم يعلم ما يكذبها ولا ما يصدقها، والكراهة فيما ليس فيه فائدة، والحرمة إذا كانت تخالف شرعنا، وضرب لذلك عدة أمثلة، وهذا تقسيم باعتبارات أخرى لا تنحصر بمجرد الضابط الذي عليه تقسيم ابن تيميَّة، وهو جيِّد لا أعلم من سبقه إليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>