للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والَّذي أراه يُشكِل حقيقةً على حديثِ أبي هريرة المرفوعِ، روايةٌ أخرى غير تلك الَّتي اغتَرَّ بها (بوهندي)، وأنا أُفيدُه بها! وهي:

ما رَواه الأوزاعيُّ، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سَلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «خيرُ يومٍ طَلَعت فيه الشَّمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُسكن الجنَّة، وفيه أُخرج منها، وفيه تَقوم السَّاعة، قال: قُلت له: أشيءٌ سمِعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بل شيءٌ حَدَّثناه كعبٌ» (١).

ففي هذه الرِّواية ينسِبُ أبو هريرة رضي الله عنه الحديثَ إلى كعبٍ، بخلافِ ما في «صحيح مسلم» وغيرِه في نِسبتِه إيَّاه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وكِلتاهما مِن طريق أبي سَلَمة عنه!

غير أنَّ روايةَ ابنَ خزيمة هذه خَالف فيها يحيى بن أبي كثير ثِقتان (٢):

محمَّد بن إبراهيم التَّيمي (٣)، ومحمَّد بن عمرو (٤)، حيث رَوَياه عن أبي سَلمة بالرَّفعِ، يعضُد هذا مُتابعة الأعرجِ لأبي سَلمة نفسِه في رفعِه إيَّاه عن أبي هريرة (٥)؛

فهذا الأصوبُ من حيث الصَّنعة الحديثيَّة.


(١) أخرجه ابن خزيمة في «صحيحه» (ك: الجمعة، باب: ذكر الخبر المتقصى للفظة المختصرة التي ذكرتها .. إلخ، برقم: ١٧٢٩).
(٢) على أن ابن أبي كثير هذا قد جاءت رواية الحسين المعلم عنه في «السنن الكبرى» للبيهقي (برقم ٦٠٠٣) بوقفِ الحديث على أبي هريرة، دون ذكر لسؤال أبي سلمة في آخره كما في رواية الأوزاعي، فلا تشكل حينئذ على الرواية المرفوعة، بحيث يقال أن أبا هريرة كان يذكر المتن أحيانًا دون رفعه اختصارًا.

غير أنَّ الحسين أقلُّ درجة من الأوزاعي في الضَّبط والتَّثبُّت، فربَّما وهم كما في «التَّقريب»، فتُقدُّم رواية الأخير عن يحيى عليه من حيث التَّرجيح الإسنادي، وإن كانت رواية الحسين أوفق مع الروايات المرفوعة الأخرى.
(٣) عند مالك في «الموطأ» (ك: الجمعة، باب ما جاء في الساعة التي في يوم الجمعة، برقم: ١٦)، وعنه رواه أبو داود (ك: الصلاة، باب: فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، برقم: ١٠٤٦)، والترمذي (ك: الجمعة، باب في الساعة التي ترجى في يوم الجمعة، برقم: ٤٩١)، وأحمد في «مسنده» (برقم: ١٠٣٠٣).
(٤) عند أحمد في «مسنده» (برقم: ١٠٥٤٥)، وأبو داود الطيالسي في «مسنده» (برقم: ٢٨٤٣) وغيرهما.
(٥) كما في مسلم (ك: الصلاة، باب: فضل يوم الجمعة، برقم: ٨٥٤) وغيره.
ولم أعتبر متابعة عبد الله بن فرُّوخ لأبي سلمة في رفعه متابعة ثانيةً، وهي في «مسند» أحمد (برقم: ١٠٩٧٠) وابن خزيمة في «صحيحه» (برقم: ١٧٢٩)، لضعف السند إلى ابن فرُّوخ، آفته محمد بن مصعب القرقساني، وهو كثير الغلط كما في «التقريب».
ولم أعلَّه في المقابل بكون يحيى بن أبي كثير مدلس قد عنعنه في رواية ابن خزيمة، كما نحى إليه الألباني في تعليقه على «صحيح ابن خزيمة ـ ط: الأعظمي» (٣/ ١١٥)، حيث صرح يحيى بالتَّحديث عند أبي زرعة الدمشقي في «الفوائد المعلَّلة» (ص/٢٦٥)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (برقم: ٦٠٠٣).

أما من رأى أن رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة في كونه من مقول كعب هي صحيحة أيضا، وجمع بينها وبين كونه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن أبا هريرة سمعه أولا من كعب، ثم سمعه بعد ذلك من أحد الصَّحابة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فصار يرفعه بعدُ دون ذكر الصَّحابي، وهو ما ذهب إليه الباحث (مناف مريان) في أطروحته للماجستير «دعوى اشتمال الصحيحين على إسرائيليات» (ص/٧٧ - ٧٨): فأُراه جمعًا متكلفا! وليس في حديث زيارة أبي هريرة لكعب الأحبار وتحديثه إياه بهذا الحديث -كما في «الموطأ (ك: الجمعة، باب ما جاء في الساعة التي في يوم الجمعة، برقم: ١٦) - ما يشعر بكونه قد سمعه من كعب قبل زيارته تلك، وأنه في زيارته الثانية نبه كعبا على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل ما كان قد سمعه منه بنفس حروفه! هذا بعيد جدا، والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>