للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلك قُبيلَ نهاية القرن الثَّاني، فبرَزَت شراذم أنكرَت حُجيَّة السُّنة في التَّشريع، وطائفة أخرى أنكرَت حُجيَّة الآحادِ منها بالخصوص (١)، قد أَقْبَرهما الشَّافعيُّ بكتابٍ سَمَّاه «جمِاع العلم»، ردَّ فيه على كِلتا الطَّائفتين.

فأمَّا إنكارُ السُّنةِ على هيئةٍ مُؤثِّرة، انتهجتها تيَّاراتٌ عَقديَّة لها ذِكرٌ في التَّاريخ:

فكان لَبِنته مِن جِهة التَّأصيل على أيَدي الخوارجِ الأُوَل، ثمَّ غُلاة الشِّيعة، لا نفيًا منهم أن تكون مصدرَ تَشريعٍ في نفسِها، ولكن مِن جهةِ الطَّعن على النَّقَلة بداعي مُعارضةِ مَرويَّاتِهم بالقرآن، أو تكفيرِهم بالمرَّة.

يقول عبد القاهر البغدادي (ت ٤٢٩ هـ) عن الخوارج:

«أنكروا حجيَّةَ الإجماع والسُّنَن الشَّرعيَّة، وأنَّه لا حُجَّة في شيءٍ مِن أحكام الشَّريعةِ إلَاّ مِن القرآن، ولذلك أنكروا الرَّجمَ والمسحَ على الخُّفين، لأنَّهما ليسا في القرآن، وقطعوا يدَ السَّارق في القليلِ والكثيرِ، لأنَّ الأمرَ بالقطعِ في القرآنِ مطلق، ولم يقبلوا الرِّوايةَ في نصابِ القطعِ، ولا الرِّواية في اعتبار الحرز فيه .. » (٢).

ولقد ضرَبَ عموم الأمَّة صفحًا عن هذا القولِ دهرًا مِن الزَّمَن، فلم تَقُم لهذه البدعة النَّكراء قائمةٌ بعد ذلك لقرون مُتطاولةٍ، قد صارت أكثرُ أقوالها في ذمَّةِ التَّاريخ تُدرَّس لأجلِ الاعتبارِ، بفضلِ ما سخَّره الله تعالى من جهودِ المُحدِّثين في نقضِ أصولِها، وفضحِ جهلِ أصحابِها، والتَّشديدِ على كلِّ مَن تفوَّه بهذه الشُّبهةِ منذ زَمنٍ مُبكِّرٍ.


(١) «دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه» لمحمد مصطفى الأعظمي (ص/٢٢). ط ٣، الرياض.
(٢) «الفَرق بين الفِرق» لعبد القاهر البغدادي (ص/٦٤)، ويُستثنى من كلام البغدادي بعض طوائفهم الَّتي لم تغلو غلوَّ مقَدَّميهم، كالإباضية الَّتي تروي الحديث النَّبوي في مصنَّفاتها عن مثلِ عليٍّ وعائشة وأبي هريرة رضي الله عنهم كما تراه في «مسند الرَّبيع بن حبيب الفراهيدي».
وقد ذكر عبد القاهر (ص/١٠٩ - ١١٣) بعد ذلك انضمام بعد الطوائف من المتكلمين إلى القول بهذا الأصلِ الشَّنيعِ، كالنَّظَّامية والهُذيليَّة من المعتزلة، وإن كان بشكلٍ أخف من متقدميهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>