للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلى أن تيَقَّظ بعض الغُفل من الأوربيِّين إلى ضرورةِ التَّخلُّص مِن هذا الاستبدادِ السُّلطَويِّ باسم الدِّين، بعد أن فقدوا الثِّقة في الكنائسِ أن تكون مصدرًا للمعرفة؛ فظَهَرت بينهم في القرنين الخامس عشرِ والسَّادس عشر مَقالاتٌ فسلفيَّةٌ، باعثةٌ لسلطانِ العقلِ على حسابِ النَّقل، ووُضِعَت المَعايير تلوَ الأخرى في تنظيمِ أمور الدَّولة، وانبهرَ النَّاس بنتائج العلوم التَّجريبيَّة والفَلَكيَّة وتطوُّرِها (١).

حتَّى إذا ضاقَت الشُّعوب ذرعًا بطُغيانِ ملوكِها ورجالِ الدِّين، صارَت المُعارَضات تشتدُّ تباعًا، إلى أن قامت ثورة الفِرنسيِّين بفلَّاحيهِم ومِهنيِّيهم علي السُّلطتين السِّياسية والدِّينيَّة سنة (١٧٨٩ م)؛ بل والقساوسةُ الصِّغار أيضًا! قاموا كلُّهم في جبهةٍ واحدةٍ يُقاتلون أرباب السُّلطة؛ فارتُكِبت في سبيل ذلك مجازِر فظيعة، وانسلخَ النَّاس من دينِ الكنيسةِ أفواجًا (٢).

لقد تمخَّضت عن هذه الثَّورة نتائج بالغةِ الخطورة، حيث وُلِدت لأوَّل مرَّةٍ في تاريخ أوربا النَّصرانيَّةِ جمهوريَّةٌ عَلمانيَّة، تقوم فلسفتُها على الحكم باسم الشَّعب وحدَه، لا باسم الله، وعلى إبعاد الدِّين عن شؤونِ الحياة، وعلى الحُريَّاتِ الفرديَّة بدلًا مِن التَّقيُّدِ بالأخلاقِ الدِّينيَّة، وعلى دستورٍ وَضعيٍّ عقليٍّ، بدلًا مِن قوانين الكنيسةِ، إلى أن تَفشَّى هذا الوَضع السِّياسيُّ الفكريُّ تدريجيًّا في كاملِ أوربا (٣).


(١) انظر «حكمة الغرب» لبِرتناند راسل (٢/ ١٥) فما بعده، ترجمة: فؤاد زكريا.
(٢) انظر «تاريخ الثورة الفرنسية» لألبير سوبول (ص/١٠٥)، ترجمة: جورج كوسي.
(٣) «العلمانيَّة» لسفر الحوالي (ص/١٦٨ - ١٦٩) بتصرف.

<<  <  ج: ص:  >  >>