والضَّرورة الثَّانية: امتناعُ جرَيَانِ التَّناقُضِ بين وَحْيِه تعالى المَشمولِ بالإِرادةِ الأَمريَّةِ الشَّرعيَّةِ، وبين العقلِ الَّذي تنتظِمُه إرادَةُ الربِّ الخَلقيَّة التَّكوينيَّة؛ ومَجْلى هذا الامتناع: أنَّ كِلا الوَحيِ والعقلِ مِن عند الله، فالأوَّل: أمرُه، والثَّاني: خَلْقُه؛ ولا تعارُضَ بين خَلْقِه وأمرِه، {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف: ٥٤].
والضَّرورة الثَّالثة: أنَّ هذا الوحيَ بهذه الصِّفةِ الهاديَةِ، محفوظٌ مِن الرَّب تبارك وتعالى إلى قيامِ السَّاعةِ، حفظًا لأحكامِه ومَعانيه، كما هو حفظ لحروفِه ومَبانيه؛ وقد أوكَلَ الله مُهمَّة تبيِينِ القرآن وتَفصيلِه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم فقال:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل: ٤٤]؛ فإذا صحَّ المَنقول من سُنَّته صلى الله عليه وسلم عند حَمَلة شرعِه، انتظَمَه الوَعدُ بحفظِ الذِّكر لزامًا؛ لسَبْقِ القضاءِ الكَونيِّ بِحفظِ الأُمَّة مِن نُفوقِ الخطأِ عليها.
فهذه ثلاثُ ضروريَّاتٍ بُرهانيَّات، ينقشعُ بهنَّ عِثْيَرُ مُناقضةِ البراهين، ومُدافعة الدَّلائل بافتراعِ خُصومةٍ مُلدَّةٍ بين الدَّلائل الشَّرعية نَقْلِيِّها وعَقْلِيِّهِا؛ يتَوَلَّى كِبْرَ هذه الخصومةِ، ويَتقحَّمُ جراثيمَ هذه المُشاقَّةِ: طوائفُ في القديمِ والحديثِ، اجْتَوَت المنهلَ الرِّساليَّ الصَّافي بادِّعاءِ التَّعارُضِ بينها، وسَوْقِ أَوقارِ الشُّبُهاتِ في سُوقِ النِّكاية بالنُّصوصِ الشَّرعيَّةِ.
نَظَرتْ كلُّ فِرقةٍ منها إِلى تلك الدَّلائل نظْرةً مُبتَسرةً، تختزلُها في رؤيةٍ واحدةٍ تتَّسقُ مع أَصْلِها البِدْعيِّ الَّذي نصَّبَتْهُ مَركزًا تقْضي به على ما عَداه، كحالِ كثيرٍ من المدارسِ الكَلاميَّةِ المُتأخِّرة الَّتي استولَدت هذا النِّزاع، حتَّى انتهى الأمر بها إلى نَصْبِ نَزعاتها المُتمعقِلَة أصولًا يُقضَى بها على النَّقل، طَلبًا لتنزيهِ النَّقلِ عن مُناقضةِ العقل -زعمَت-، فكانوا كمَن ينقض رُكنًا في بيتِه، ليَرِمَّ صدْعًا في رُكنٍ آخرَ!
ولئِنْ كانت هذه الَمدارس قد قنِعت بأوَّلِيةِ العقلِ عند التَّعارض، فإِنَّ طوائفَ أخرى مِن أبناء عصرنا قد ألقَت هذا القَيدَ على عواهِنه، لتبلُغَ بهم الخصومة