للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ترى مثالَ هذا الانقلاب الفكريِّ في قولِ (حسنِ التُّرابيِّ): «لا بُدَّ لنا أن نعيدَ النَّظرَ في الضَّوابطِ الَّتي وَضَعها البخاريُّ، فليسَ هناك داعٍ لهذه الثِّقة المُفرطة في البخاريِّ!» (١).

ومن قبله (أحمد أمين)، كان يَميل إلى موقفِ المُعتزلةِ في حاكميَّة العقولِ في ميدان الأخبار، وضرورةِ إخضاعِ الأحاديث لمُقتضَياتِ التَّجربة العمليَّة، وأنْ ليس لأيِّ مُدوَّنةٍ حديثيَّةٍ حُرمة توجِب إسقاطَ مُخرجات تلك العلوم عليها، ولو كانت «الصَّحيحين»، حيث توهَّم انصراف المُحدِّثينَ إلى نقد الأسانيد دون المتون.

فادَّعى (أحمد أمين) أنَّه لم يظفَر منهم في هذا الباب بعُشر مِعشارِ ما عُنوا به مِن جرح الرِّجال وتعديلِهم؛ فكان يقول: « .. نَرى البخاريَّ نفسَه -على جليلِ قدرِه، ودقيق بحثِه- يُثبت أحاديثَ دَلَّت الحوادث الزَّمنيَّة، والمُشاهدة التَّجريبيَّة، على أنَّها غير صحيحة، لاقتصارِه على نقدِ الرِّجال» (٢).

فلو أنَّ البخاريَّ وأهلِ الحديثِ انصَّبَت عِنايتُهم إلى انتقادِ المتون، لانكشَفت -كما يزعم- أحاديثُ كثيرة تُبيِّن وضعَها، كأحاديثِ الفضائلِ في مدحِ الأشخاصِ، والقبائلِ، والأمكنةِ (٣).

ومن أولئك بالمُقابل: مَن يُعظِّم جانبَ السُّنَن المَنقولة، ويُقدِّمها على كلِّ دليلٍ سِوى كتاب الله، بل كثيرًا ما تراه مُحتاطًا في تأويلِها، لكنَّه يَعثرُ في فخِّ التَّمعقل عليها في مَواطن مِن مُؤلَّفاته ومَقالاتِه، مِن غير مُستندٍ شَرعيٍّ واضح، ولا قدوةٍ مِن سَلفٍ صالح.

أقال الله عثرَتهم أبتعين، وغَفَر لنا ولهم أجمعين.


(١) نقلًا عن «مناقشة هادئة لبعض أفكار الترابي» للأمين محمد أحمد (ص/٧٩).
(٢) «فجر الإسلام» (ص/٢١٠).
(٣) «ضحى الإسلام» (٢/ ١٣٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>