للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا يَتَشكَّك فيه إلَّا مَن تَشكَّك في المُتواتراتِ والحقائقِ العلميَّةِ الَّتي تثبُت بالضَّرورة» (١).

لقد كان مِن السَّهلِ على مِثل البخاريِّ، أن يَسرُد الأحاديثَ بجميع طُرقِها في موطنٍ واحدٍ من كتابِه هذا كما صنعَ تلميذه مسلم في «مسنده الصَّحيحِ»، لكنَّه اختارَ أن يسيرَ فيه على منهجٍ قِوامه: جمعُ الأحاديث الصَّحيحة المتَّصلةِ المُجرَّدة مِن أمورِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُننِه وهديِه مِن غيرِ استيعابٍ، مع استنباطِ الفقهِ والسِّيرة والتَّفسيرِ منها، مُرتِّبًا لها على الأبواب الفقهيَّة تحت عناوينَ تراجم، وهذا ما اضطرَّه إلى تجزئةِ الحديثِ وتقطيعِه أحيانًا، وإيراد كلِّ طرفٍ منه في المَوضعِ اللَاّئقِ به، وتكراره أحيانًا مَقرونًا بفائدةٍ زائدةٍ.

وحيث أنَّ بعض خصوم السُّنة لم يفهم غرضَ البخاريِّ مِن تصنيف كتابِه وطريقته فيه، استثقلوا هذا الأسلوبَ منه في التَّقطيعِ والتَّكرار للحديث في مواضع من كتابِه، ما عبَّر عنه (جمال البنَّا) بقوله: «لو أنَّ البخاريَّ لم يَعمِد إلى هذا التَّكرار، فلربَّما صَدَر كتابه في نصفِ حجمِه المطبوعِ، ولاستراحَ وأراحَ!» (٢).

وقال (عبد الصَّمد شاكر): «الأحاديث المكرَّرة -سواء بلا مناسبةٍ أو بمناسبةٍ جزئيَّة- في كتابِه، قد بلغت إلى حَدٍّ تَشمئزُّ منه النَّفس، وينفر منه الطَّبع! ولعلَّها مِن خصائصِ هذا الكتاب وحدَه! .. ويحتمل أنَّ هذا التَّكرار المُمِلَّ المُخالف للذَّوقِ السَّليم، ليس مِن صُنعِ المؤلِّف، فإنَّه مات قبل تدوينِ كتابِه، فترَكه مُسوَدًّا، فتَصرَّف فيه المُتصرِّفون بلا رَويَّة، وعليه فيَقِلُّ الاعتمادُ على الكتابِ المَذكور» (٣).

فهذا الَّذي أنكروه على البخاريِّ في التَّصنيفِ -هو في حقيقته- مَظهرٌ مِن مَظاهرِ براعته في التَّصنيف لو فقهوا، حيث استعاضَ بهذا التَّقطيعِ وتجزيئِه للمتونِ عن تكثير الأحاديث في «جامعه الصَّحيح»، وإلَّا لكان احتاجَ إلى أضعافِ حجمِه


(١) «نظرات على صحيح البخاري» لأبي الحسن الندوي (ص/١٤).
(٢) «تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تلزم» لجمال البنا (ص/١٥).
(٣) «نظرة عابرة إلى الصحاح الستة» (ص/٥٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>