للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القديمِ وفي زمانِه، مع ما اختصَّ به من «جمع الطُّرقِ، وجودةِ السِّياقِ، والمُحافظةِ على أداءِ الألفاظِ كما هي، مِن غيرِ تَقطيعٍ ولا روايةٍ بمعنى» (١).

ذلك أنَّ مسلمًا وإن تَأثَّر بالبخاريِّ في فكرةِ التَّصنيفِ ومنهجيَّةِ الانتقاء، إلَّا أنَّ كتابَه تَميَّز بخصائص مُنفردة حفظت له ذاتِيَّته، وعرَّفت بجهودِه وقُدرته في التَّأليف، ودلَّت على نَباهتِه وعقليَّته المبتكِرة (٢)؛ فلم يَعمَد فيه إلى ما عَمَد إليه أستاذُه مِن الاستنباطِ، بل أخلى تصنيفَه مِن اجتهاداتِه الشَّخصيَّة، فلا تكاد تجِدُ للجانبِ الفقهيِّ فيه أثرًا إلَّا التَّبويبَ العامَّ، تاركًا ذلك لدَرْسِ القارئِ وفهمِه لاختيار ما يَراه راجحًا؛ بل كانت هِمَّته مُنصرفةً إلى صِناعة الأسانيدِ، وترتيبُه للأحاديثِ في الباب الواحدِ مُرتَبِطٌ بهذه الصِّناعة، مراعيًا في ذلك للشُّهرَة، والعُلوَّ، والخُلوَّ مِن العِلَّة.

وبها تدركُ سببَ انفرادِ مسلم في «صَحيحِه» بمُقدِّمةٍ في مَنهجِ النَّقد، عُدَّت مِن أوائلِ ما كُتِب في التَّقعيد لهذا الباب.

والَّذي يظهر مِن طَريقة مسلمٍ في هذا النَّوع من التَّصنيف: أنَّه تَغيَّا إسعاف المُستَدلِّ بالمادَّةِ الحديثيَّة الصَّالحةِ للاحتجاجِ بتيسِير وصولِه إليها؛ فلأجلِ ذا صبغ كتابه بسَرْدِ المُحدِّث المَعْنيِّ بالمتونِ، المُهتَمِّ بمعرفةِ الأسانيد، حتَّى ترَكَ وضْعَ أسماء لأبوابِه وتراجمِه حرصًا على عدمِ انصرافِ ذهنِ القارئِ عن مَقصدِه مِن كتابه (٣).

وقد ساعد مسلمًا على هذا الإتقان لجمع الأحاديث أنَّه صنَّفه في بلدهِ (نَيْسابور) بحضور أصولِه، وفي حياة كثيرٍ من مشايخه (٤)، مُستغرقًا فيه خمسةَ عشرَ سنة (٥)، مُتحرِّيًا في سياقِ أحاديثِه، مُتحرِّزًا في ألفاظِها، مع الاختصارِ


(١) «تهذيب التهذيب» (١٠/ ١١٤).
(٢) انظر «الإمام مسلم ومنهجه في الصحيح» لـ د. محمد طوالبة (ص/١٠٨ - ١٠٩).
(٣) انظر «تدوين السنة النبوية في القرنين الثاني والثالث للهجرة» لمحمد صادق بنكيران (ص/٣٠ - ٣١).
(٤) «هدي الساري» (ص/١٢).
(٥) ذكر هذا تلميذه أحمد بن سلمة، كما في «تذكرة الحفاظ» للذهبي (ص/٥٨٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>