للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولأنَّ الرَّازيَّ يَعلمُ قَدْرَ الشَّيْخَين في قلوبِ العَامَّةِ والخاصَّةِ، اعتذَر لهما لكن بما يؤول إلى نعتِهما بنوعِ دَروشةٍ، فقال: « .. البخاريُّ والقشيريُّ (١) ما كانا عَالِمين بالغُيوب، بل اجتهدا، واحتاطا بمقدار طاقتهما، .. غايةُ ما في البابِ أنَّا نُحسن الظَّن بهما وبالَّذين رَوَيَا عنهم، إلَّا أنَّا إذا شاهدنا خَبرًا مُشتملًا على مُنكرٍ لا يُمكن إسناده إلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم، قَطَعنا بأنَّه مِن أوضاعِ المَلاحدةِ، ومِن تَرويجاتِهم على المُحدِّثين» (٢).

فمَقالة الدَّسِ هذه في الصِّحاحِ قديمة، قد بلغت مِن القُبحِ في تَصَوُّر هذا العِلْم ما لأجله شنَّع أبو المظفَّر السَّمعاني (ت ٤٨٩ هـ) على مُحْدِثِها بنعتِه «جاهلًا، ضالًّا، مبتدعًا، كذَّابًا، يريد أن يُهجِّن بهذه الدَّعوى الكاذبة صِحاحَ أحاديثِ النَّبي صلى الله عليه وسلم وآثاره الصَّادقة، فيغلِّط جُهَّالَ النَّاس بهذه الدَّعوى؛ وما احتجَّ مُبتدع في ردِّ آثارِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بحجَّةٍ أوهى منها، ولا أشدَّ استحالةً مِن هذه الحجَّة».

ولم تسمح للسَّمعانيِّ نَخوَتُه على أهلِ الحديثِ حتَّى ردَّ على هذه الدَّعوى بقوله: «لَئِن دَخَل في غِمار الرُّواة مَن وُسم بالغَلط في الأحاديث، فلا يروج ذلك على جهابذة أصحابِ الحديثِ ورُتوتِ العلماء، حتَّى أنَّهم عَدُّوا أغاليطَ مَن غلط في الأسانيد والمتون، بل تراهم يَعدُّون على كلِّ رجلٍ منهم في كَمْ حديثٍ غلط، وفي كمْ حرفٍ حرفٍ، وماذا صَحَّف؛ فإذا لم ترُج عليهم أغاليط الرُّواة في الأسانيد والمتون والحروف، فكيف يروج عليهم وضعُ الزَّنادقة وتوليدهم الأحاديث؟!» (٣).

والَّذي يُلمُّ بشيءٍ مِن حالِ الرِّوايةِ والتَّصنيفِ الحديثيِّ مِن حين نشأتِه، والجُهدِ المبذول في تفحُّصِ أدقِّ تفاصيلِه، والمتعلِّقة بالرَّاوي ورِوايتِه ومَن رَوى


(١) يعني مسلم بن الحجَّاج.
(٢) «أساس التَّقديس» (ص/٢١٨).
(٣) «الانتصار لأصحاب الحديث» للسَّمعاني (ص/٥٦ - ٥٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>