للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مثلُ هذه الرَّغبة المعاصرة الجامحة لاستبدالِ ما تَوارثته الأمَّة من مناهج التَّوثيق الحديثيِّ، مُستمد مِن جذرٍ أقدم، يرجع إلى (محمَّد عبده) في سوءِ تصوُّرِه لأساساتِ هذا العلم، فقد كان مِن السَّابقينَ إلى التَّقليلِ مِن قيمةِ الأسانيدِ الرَّائجةِ في صدر هذه الأُمَّة؛ يقول مَرَّةً في جدالِ أحَدِ علماءِ الهنود: « .. ما قيمة سَنَدٍ لا أعرف بنفسي رجالَه، ولا أحوالَهم، ولا مكانَهم مِن الثِّقةِ والضَّبط؟! إنَّما هي أسماءٌ تلقَّفَها المشايخُ بأوصافٍ نُقلِّدهم فيها، ولا سَبيلَ لنا إلى البحثِ فيما يقولون» (١).

وهذا لا شكَّ منه تطلُّبٌ للمُحَال، وهي مَقالةٌ منه خطيرةٌ! مُنطويةٌ على جهلٍ بطبيعةِ تلك الأسانيد، والمَعايير الَّتي وضعها العلماء قبله للتَّحقُّق من مراتب الرُّواة، مع ما في رفضِه لها من خرمٍ لإجماعِ الأمَّة على اعتبارها بضوابِطها، وما إليه تَؤُول عبارتُه من دعوةٍ إلى الانفلاتِ مِن السُّنَن جملةً.

وبمثل هذه الدَّعوى يُعلِّل مَن يلغ في حياض «الصَّحيحين» بأنَّ الكِتابَين على غيرِ منهجيَّةٍ مَوضوعيَّةٍ متينة! ترى ذلك -مثلًا- في ما استنكره (عبد الحميد أبو سليمان) من أحاديثِ في «صحيح مسلم»، حيث أرجعَ باللَّائمةِ سِراعًا إلى المنهجِ النَّقدي الَّذي سارَ عليه مسلم بن الحجَّاج في انتخابِه للأخبار، فقال: «إنْ صحَّت مثل هذه النُّصوص، وما أظنُّ كثيرًا منها يَصحُّ بحرفه على الأقلِّ، مِن باب الدِّراية ونقدِ المتن: وذلك لِما قد يكون لحِقها مِن عيوب الرِّواية، الَّتي يغلب على الظَّن أنَّه لم يتنبِه لها علماء الحديث» (٢).


(١) «الأعمال الكاملة» لمحمد عبده (١/ ١٨٤).
(٢) في مقاله «حوارات منهجية في قضايا نقد متن الحديث الشريف»، المنشور بمجلة «إسلامية المعرفة» (العدد ٣٩، ص/٢٤٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>