للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والنُّكتَ الحكميَّة، والتَّعليق على إثرِها برأيهِ أحيانًا، مُستشهِدًا في ذلك كلِّه بآثارِ الصَّحابةِ والتَّابعين، إذْ لم يكُن «مَقصوده الاقتصارَ على الأحاديثِ فقط، بل مُراده الاستنباط منها، والاستدلالُ لأبوابٍ أرادَها» (١).

فكان مِن أسبابِ تفضيلِ العلماءِ -مُحدِّثين وفقهاءَ- لـ «صحيحِه» على سائرِ دواوين السُّنة، وتلقِّيهم إيَّاه بالقَبول، وانكبابِهم على دراسته وتدريسه: هذا الاهتمامُ من صاحبِه بوضعِ تراجم فريدةٍ مُمتعةٍ لأبوابِه، تضمَّنت كثيرًا مِن المعاني الغامضة، والاستنباطات الدَّقيقة.

يقول ابن حجر عن هذا النَّجيز: «الجهة العُظمى الموجبة لتقديمه، هي ما ضَمَّنه أبوابَه مِن التَّراجم الَّتي حَيَّرت الأفكار، وأدهشت العقول والأبصار، وإنَّما بَلغت هذه الرُّتبة، وفازت بهذه الحُظوة، لسببٍ عظيمٍ أوجب عظمها، وهو ما رواه أبو أحمد ابن عديٍّ، عن عبد القدُّوس بن همَّام قال: شهدت عدَّة مشايخ يقولون: حَوَّل (٢) البخاريُّ تراجمَ جامعِه بين قبر النَّبي صلى الله عليه وسلم ومِنبرِه، وكان يصلِّي لكل ترجمة رَكعتين (٣») (٤).

فكان أجلى لمسات الإبداعِ مِن البخاريِّ في مُصنَّفه مُتجلِّيةً في صياغتِه لتلك التَّراجم، وحُسنِ اقتناصِه لعجائب المعاني من الأحاديث الَّتي يسوقها في تبويباتِه، مُعربًا عن فهمٍ ميَّزه الله به عن أقرانِه من فقهاءِ أهل الحديثِ.

بذا نستطيعُ تلمُّحَ بعضٍ من أسرار عبقريَّة البخاريِّ في «صحيحِه»، تتَجلَّى بادئ الرَّأي في ثلاثِ ميزاتٍ أصبَغها كتابَه:

الأولى: اشتراطه لأعلى مَراتبِ الصِّحة في الحديث.

الثَّانية: دقَّة الاستنباطِ للمَعاني في التَّراجم.


(١) «هُدى السَّاري» لابن حجر (ص/٨).
(٢) أي: بيَّضَ.
(٣) رواه ابن عدي في «أسامي من روى عنهم محمد بن إسماعيل البخاري» (ص/٦١).
(٤) «هُدى السَّاري» (١/ ١٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>