للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا لنفهمَ مُستندَ ما انْبَنى عليه قَبول الأُمَّةِ للكِتابين؛ لم يكُن أبدًا أمرًا اعتباطيًا أو ناشئًا عن تعصُّب، بل الإجماع المَذكور مَردُّه إلى اختبارِ المُتَخصِّصينَ وتَوافقهم في الحكمِ العامِّ عليهما؛ على خلاف ما ادَّعاه (جُولدْزيهر) من «أنَّ مِن الخطأ اعتقادُ أنَّ مَكانةَ هذين الكِتابين مَردُّها إلى عَدمِ التَّشكيكِ في أحاديثهما، أو نتيجةً لتحقيقٍ عِلميٍّ، فسُلطانُ هذين الكِتابين يَرجع لأساسٍ شَعبيٍّ لا صِلةَ له بالتَّدقيقِ الحُرِّ للنُّصوص، هذا الأساس هو إجماعُ الأمَّة» (١).

ولم يكُن للمُتأخِّرون مِن حَمَلة الشَّرعِ أن يخفوا هذه النَّقدات «للصَّحيحين» ويطمسوها عن العامَّة -كما يفتريه بعض من يُلقي الكلام على عواهنه- بل على العكسِ من ذلك! نَراهم يُلقِّنونَنها صغارَ الطَّلَبةِ في حلقات التَّدريس لمتونِ المُصطلَح؛ لعلمهم بأنَّ ما أكْسَبَ «الصَّحِيحين» هذا القَبول العارم، ورَفَعَهما على سائرِ مُصَنَّفاتِ السُّنة، هو تَظافر المُحقِّقينَ على مُناقشتِهما، وفرز ما فيهما مِن عِلَل، وبلوغهم في تَقيِيمهما النِّسبةَ العاليةَ من حيث إصابةِ غرَضِ مُصنِّفيْهما.

نعم؛ قد يَحجُب الرَّبَّانيُّون مِن العلماءِ على عَوامِّ النَّاسِ ذكرَ تفاصيل الخلافِ في أحاديثِ «الصَّحِيحَين»، ومَبعثَ كلِّ ناقدٍ في تعليلِه وطبيعتَه، فإنَّ أعْطانَ العَامَّة تَضيق عن استيعابِ ذلك في الغالِب! بل قد يَؤول إلى مَفسدةِ التَّشكُّك في هذا العلمِ وانتقاص أئمَّتِه!

وهذا من البصائر الَّتي ضمَّنها أبو داود (ت ٢٧٥ هـ) رسالتَه لأهل مكَّة حين أوصاهم بقوله: « .. ضَررٌ على العامَّةِ أن يُكشَف لهم كلُّ ما كان مِن هذا الباب فيما مَضى مِن عيوبِ الحديثِ، لأنَّ عِلمَ العامَّة يَقصُر عن مثلِ هذا» (٢).

وأجمل منه، ما أعقبَ به ابن رَجبٍ (ت ٧٩٥ هـ) هذه الوصيَّة حين قال: «هذا كما قال أبو داود، فإنَّ العامَّة تقصُر أفهامهم عن مثلِ ذلك، وربَّما ساَء


(١) «دراسات محمدية» (ص/٢٣٦).
(٢) «رسالة أبي داود إلى أهل مكَّة» (ص/٣١).

<<  <  ج: ص:  >  >>